إلى ذكرى( تميم صائب).. بقلم درغام سفان

إلى ذكرى( تميم صائب)

بقلم درغام سفان

اعتزمنا ثلاثتنا الذهاب إلى” بهلول” في “دوار غسان عبود” ،لتناول البوظة كان الوقت أصيلا، ومازال الهواء يميل الى الحرارة قليلا..لولا الأشجار التي كنا نتلطى تحت أفيائها ، فتمنحنا ذلك الإحساس المنعش بالبرودة ،أشجار قليلة على جانبي الشارع العريض بين الجسرين ، “الجسر العتيق” الذي لصق به ذلك الاسم رغم تجديده، و”الجسر الجديد” الذي ظل يزهو على أخيه رغم حداثة سنه.. ونال من الحظوة والثناء، مالم ينله شقيقه ” العتيق” الذي ظل يحمل على عاتقه أعباء المدينةبصمت وجلادة… فيما تفرغ “الجديد” للهو… وملازمة العشاق والسكارى الحالمين …في “جرداق حاج رزوك”
في طفولتي ..كان ثمة عربة صغيرة لبيع البزر تأخذ مكانها في جانب الجسر المقابل لمقهى” عصمان بك” يقف عليها رجل بيد نصف مشلولة ، وبفرنك واحد كنت أحصل على حفنة من البزر اللذيذ …كنا بمزاج عال نرطن بالعربية الفصحى نحن الثلاثة…!..فقد عقدنا اتفاقا منذ أقل من ساعة ،على أن نتكلم” الفصحى” ،وكان ذلك سهلا ،مادامت أحاديثنا في الشعر وملحقاته.كان الحماس والجهد أخذا منا كل مأخذ ،فاقترح أحدنا أن نمضي لتناول البوظة عند” بهلول”…. توافقنا ثلاثتنا بدون تردد ، وعقدنا العزم، أن نسلك أقصر الطرق وأجملها،وصلنا عند ناصية بناء” المواصلات”، ولم يفتني وقتها، أن اتأمل اللوحة المكتوبة” بالخط الفارسي” تشير الى اسم البناء، كانت بريشة الفنان “مروان حسن”.. استاذي وقريبي الذي درسنا مادة الاجتماعيات في اعدادية الشهيد” محمود شلاش” ….كان مروان يشظف الطبشورة بطريقته الآسرة، ويخط على اللوح الخشب بخط الرقعة البديع.. وكم من درس مضى وأنا ساه عنه، أحاول تقليد خطه…بلا طائل…… حثثنا الخطا ثلاثتنا، لكن كان علي أن القي نظرة خاطفةعلى دكانة “ابو عراج”الذي مات منذ حين من الدهر ، وخلفه أحد أولاده ، ففقدت عندي سحرها القديم… في الحقيقة هو شبه دكان مصنوع من الخشب والقماش، يديره ابو عراج بلحيته الكثة وعكازه الخشبي وساقه العرجاء.. و صوته الجهوري الخشن حتى ليشبه الى حد كبير سيد القراصنة ،لكنه بقي في ذاكرتي صدى جميلا وطيبا مثل “لوزه” المحمص …انحرفنا الى اليمين محاذين النهر..
وصلنا “جسر حطلة”…. ثم جاوزناه نزولا من” الحويقة الشرقية” الى المدينة، لم نشعر بمرور الوقت ،رغم طول المسافة،وهاهو المطعم الشهير ، بين أيدينا، دلفنا على عجل، ونحن نمني النفس بأطيب صحن بوظة شاعت شهرتها في المدينة …كنا متعبين قليلا.فأردنا أن نلتقط أنفاسنا أولا…لكن صبي المطعم هرع الينا على عجل ،وهويرتدي كلابيته الفضفاضة فلم يكن آنذاك من لباس خاص للنادل… بادرنا بالسؤال
-..أهلا بالشباب شكون تريدون..؟
…نطق أحدنا بدون تردد…
-ثلاثة صحون من المثلجات..
ارتبك الصبي قليلا..
-اذا قصدكم ثلج..ترى بياع الثلج..ورانا ..أخوي..!
-لاياعزيزي …لانريد ثلجا…وإنما مثلجات…!!.
صفن الصبي قليلا..تأملنا الواحد تلو الآخر ..واستدار فجأة، وهو يلوح بيده صارخا لرجل جسيم..شحيم
– ..أبو جسوم… تعال منشان الله شوفلي هذول الجماعة…
ثم رأيناه، ينحني على المدعو ابو جسوم، وهو يهمس في أذنه، ويشير له إلينا بأصابعه الخمسة…فيما كان ابو جسوم ،يهز رأسه ..وهو يرمقنا بين الفينة وأختها
وفجأة قفز الرجل ..من مقعده ..وأمسك بعصا خشبية غليظة كانت مركونة جانبا..وتقدم نحونا ،وهو يقلبها بين يديه… فيما الصبي يتأخر عنه قليلا…
في هذه اللحظات العصيبة ..بدأت فرائصنا ترتعد …وعرفنا بعد أن تبادلنا النظرات على عجل ..أي مأزق نحن فيه…ولن يخلصنا من عصا أبو جسوم لاسيبويه…. ولانفطويه ..!!
وقف الرجل المفتول أمامنا، وهو يهز بعصاه…وقال بصوت يشبه الزمجرة
ها شباب… فهمونا شكون تريدون…؟
وبدون تردد صحنا بصوت واحد كأننا نردد الشعار…..
-أخوي … منشان الله…. ثلاثة دوندرمة…ثلاثة…دوندرمة..والتوبة ماعاد نعيدها….
وكانت تلك أطيب دوندرما بحياتنا….

ثلاثتنا=تميم+ابراهيم اللجي+درغام

شاهد أيضاً

(ألوان بلا عنوان).. حمام السوق بقلم سمير الحاج

قبل العيد بيوم أو يومين في فترة ما قبل السبعينات من القرن الماضي يتجهز الناس …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *