أمل.. نخلة فراتية فعلت مالم يستطع الرجال أن يفعلوه

عندما تزرع النخل في تربة صالحة ستجني التمر الذي يسد جوع المتعبين، الذين أثقلهم تعب الحياة.

لم يزرع والدها نخلة عادية.. ولم تسق أمها نخلة طبيعية، كانت نخلة بحجم الدير.. إنها الفراتية (أمل)

تخرجت أمل وانغمست في غمار العمل منذ شبابها وكحال الفراتيات عاشت على الحلوة والمرّة مع شريك حياتها بعد زواجها .. وصبرت وأثمر صبرها عائلة تباهي (أمل) بها الدنيا.

كانت عائلة نخلتنا الفراتية مؤلفة من 4 أولاد

رحم الله والدتها .. كانت تقول لها (أخشى أن تشقين بحياتك)

رحلت والدتها .. لكنها لم تكن تعلم ما سيحصل مع ابنتها في أيام.. عَجِز الرجال عن احتمال ما احتملت، وليتها اليوم ترى كيف استطاعت ابنتها أن تتحمل هم كل ما حصل لمدينة بحجم الدير..

ليتها تعلم أنها ربّت جبَلا لم يهتز ذات حزن على زوج رحل خلال سعيه وراء لقمة أولاده.. ليتها تعلم كم سهرت أمل إلى أن تماثلت ابنتها للشفاء.. ليتها تعلم كم فرحت حين زوجت ابنتيها وفرحت بهما ..

ليتها تعلم ما تعيشه أمل اليوم في دير لم يعد فيه من أحبتها سوى صغيرها الذي ترفع رأسها حين تتحدث عنه أمام الناس.. ترفع رأسها بخلقه واجتهاده.

لابد أنكم تتساءلون عن المميز في بطلة قصتنا أمل؟.. سأخبركم وأبدأ القصة بهذه الجملة:

ما أقسى أن تنقسم إلى جزأين.. جزء منك في المقبرة، والجزء الآخر على باب غرفة العمليات تنتظر ألا يأخذ الموت فلذة كبدك مع والدها إلى المقبرة، اختارت القذيفة أن تأخذ منها زوجها، ذات حصارٍ خنق دير الزور.. ولم تكتف بخطف الزوج بل أصابت ابنتها البكر، وكعادة الفراتيات أن يحزنَّ وذهبن إلى قبر العزيز.. كانت تريد أن تذهب، ولكنها لم تستطع أن تفارق ابنتها المصابة، في وقت لا طب فيه ولا قدرة على الخروج من مدينة محاصرة، ويزداد المشهد قساوة حين يمتزج دم زوجها وابنتها بيديها وتحتار في إغلاق جرحيهما فقد كان الحادث قد وقع أمام عينيها.

ينهار الجبارون في هذه المواقف، ولكنها وقفت تفزع أهل النخوة كي ينقذوا ما يستطيعون إنقاذه، وتلملم جراح عزيزَين، استعانت بالله فكان نعم المعين لها على مصيبة الفقد وألم الإصابة، ولم يتوقف الألم هنا، بل نزلت قذيفة أخرى في المكان الذي يوجد فيه بقية أولادها.. وركضت تبحث بين جـ.ـثث المصـ.ـابين والقـ.ـتلى، لتفرح بابنها وهو يركض باتجاهها حافياً وابنها الثاني يحمل فردة حذاء أبيه الذي فارق الحياة ويلبس الفردة الأخرى.

توقف الزمن وانعدمت المشاعر والأحاسيس.. لم تكن تعرف ماذا تفعل تضم أولادها وتهدئ روعهم.. تلحق جثة زوجها .. تواصل الركض باتجاه المشفى لتطمئن على ابنتها المصابة.. فجأة لم تعد تسمع ولم تعد تعي ما جرى ولم تكن تدري ما ينتظرها، واختار القدر أن تعيش أرملة مع أربعة أطفال.. وتأخذ مهمة جديدة وهي أن تكون الأب والأم في ذات البيت، ولاسيما بعد أن تخلى أقرب المقربين وتركوها تصارع الحياة وقسوتها مع أطفالها.

نخلتنا الفراتية اختارت المواجهة.. ولم تتوانَ لحظة عن احتضان أطفالها وتربيتهم تربية الدير الأصيلة.. ولم تقل لأعمامهم خذوا أولادكم وسأرى حياتي.. بل كانت في عز ألمها.. أملاً ينير درب شمعاتها الأربعة، وما زاد مهمة النخلة صعوبة هو حصار خارجي وداخلي ظالم لكل من هو بدير الزور، واحتارت كما كل أهالي دير الزور بلقمة خبز لأطفالها لتلتفت بعد ذلك للطبخ على النار، ومن ثم لترثي ثياب هذا وترقع ثوب تلك.

الحصار لم يكن له قلب.. قسى على أبناء الأصول.. وكانت قسوته مضاعفة على نخلتنا (أمل) التي لم تسمح لأطفالها أن يتركوا مدرستهم بل على العكس، كانت تقطع من لقمتهم لتشتري بها مقررات لجامعة تلك ودفاتر وأجور دورات لهذا، وهي تردد جملتها .. ادرسوا وانا أمكم .. اجتهدوا وانا أمكم .. لم تتوانى أيضاً عن مقارعة الجوع الذي حاق بمعظم الديريين في تلك الفترة.

لم تطلب من أحد أن يقف معها وطلبت العون من الله خالقها ومعينها .. وقفت شامخة لم تحن رأسها لبشر.. وحان وقت القطاف، وكما النخل كان النتاج، فها هي بكرها التي أصيبت يوم رحل والدها تذهب لتقديم فحصها متحاملة على جروحها ورغم إصابتها إلا أنها لم تتوقف عن الدراسة.. وتخرجت من كليتها بتفوق.

ابنها أيضاً تخرج من المعهد وتابع دراسته في الكلية إلى أن ازداد الغلاء فأوقف دراسته واضطر للعمل كي يعين نخلته الأم، زهرتها الثانية أنهت دراستها الثانوية وتزوجت، أما الكعدة.. فها هو اليوم قد أنهى دراسته الثانوية.

اليوم وبعد كل تلك السنين:

ابنتها البكر غادرتها إلى عريسها في أوروبا

ابنها غادرها للعمل في إحدى الدول العربية

زهرتها بعد زواجها انتقلت كذلك إلى بيت زوجها في أوروبا

وبقيت مع صغيرها الرجل اليوم، ترعاه وتأمل أن يكمل دراسته إلى أن تكمل رسالتها وتوصل الجميع إلى بر الأمان في بلد يفتقد الأمان

 

هل تعلمون أن قصة النخلة (أمل) لو أردنا أن نكتب تفاصيلها لاحتجنا إلى روايات وليس رواية واحدة، ولكننا فضّلنا أن تكون مقتطفات من حياة نخلة، دموعها الحرّى كانت تدفئ فراشها ووسادتها الباردين في زمهرير الدير، لم تتواني عن بذل الجهد والعرق في سبيل أن ألا يقال إنها تخلّت عن أطفالها وتزوجت، زلم تنتظر مديح هذا أو إعجاب ذاك، بل كانت تعمل بفطرتها الديرية.. بأصلها الذي جبلت منه

كانت نخلة وأحيت الأمل

أمل كل الديريين الذين يفخرون بامرأة لا ترى أنها فعلت شيئاً خارقاً، وتقول ببساطة كنت أماً.. وأباً.. وأخاً وأختاً وسنداً وجبراً لأولادي

اليوم وهي على دجة بيتها تشطف الرصيف وتتذكر ضحكات أطفالها الذين سرعان ما كبروا وأصبحوا نوارس تهاجر لتروي للدنيا أجمعها قصة نجاح نخلتنا في تخريج أبناء ترفع الرأس تربيتهم وأخلاقهم.

اليوم وهي تشطف الدجة.. تجلس وتستذكر طيوف الراحلين وتبتسم عندما تتذكر كلمات أمها في حوش بيتهم العتيق حين كانت تقول لها: ((يولي انتي تشوين البيضة باثمجي.. بس أخاف انجي تنكردين))

وتجيب وهي تضحك.. انكردتو.. بس صرتو أيقونة من أيقونات الدير، والله ثم الناس يشهدون بهالشي.

شاهد أيضاً

جهان طبال .. العلم والتربية متجسدة بامرأة

نشأت في عائلة تحب العلم والدين وتقدس المثل والأخلاق، كان جدي رحمه الله من أكبر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *