مدينة بلا تاريخ.. أحد أسباب عدم التمكن من التوثيق

بقلم: لؤي بدور

في بداية تسعينيات القرن الماضي كان لي شرف اللقاء بمجموعة من الباحثين والفنانين والمجاهدين.
وكان أول هؤلاء المرحوم الباحث إبراهيم علوان حيث قمنا كمجموعة بتصوير العيد بالريف الديري، وما يتضمنه العيد من عادات وتقاليد وبدأنا التصوير منذ شروق الشمس لمغيبها، مع لقاءات لبعض المعمرين بالصوت والصورة ، حدثونا عن الألعاب وفرحة الأطفال ، وأمضينا يوما كاملا معهم.
وفي اليوم التالي صورنا عرسا أيضا وصادف أن كان في إحدى القرى الديرية وتحدثوا عن التفاصيل من (مشية الزلم) وحتى الإنتهاء من إقامة الحفل وما يتضمنه من أهازيج و غناء ( والتلبيسة، والزهاب، وصندوق العروس، والذبائح والولائم… ).
وصورنا أيضا طريقة تحضير القهوة العربية والأدوات التي تستخدم لتحضيرها.
وكان لي شرف لقائي الثاني مع المرحوم الفنان الأصيل صالح النجار وهو أحد مؤسسي الحركة الفنية والرياضية بديرالزور، حيث زرته مرات عدة بمنزله الكائن في حي ( الجورة ) ، وفي كل مرة أجده ممسكا عوده ويدندن ويغني بعضا من الأغاني الفراتية، وصورت له بعضا منها مع أرشيفه الورقي ومذكراته.
وجهزنا لتصوير الألعاب التي كنا نلعبها في فترة الطفولة والشباب ( ألعاب للذكور وألعاب للإناث ) والألعاب الصيفية والشتوية، ودربنا بعض الأطفال عليها بثانوية التجارة للبنات.
وشاء القدر بأن يرحل عنا رحمه الله دون أن نكمل هذا المشروع.
وبقي حسرة في قلوبنا حتى تاريخه.
اللقاء الثالث كان مع أحد المجاهدين الذين ذهبوا للجهاد في فلسطين بعد النكبة وهو الأستاذ والمربي الفاضل المجاهد المرحوم علاء الدين دلو وأيضا في منزله الكائن بجمعيات الحزب مقابل مدرسة العلامة الشيخ محمد سعيد العرفي رحمه الله، وصورت له بعضا من أحاديثه عن الجهاد والمقاومة في منطقة وادي الفرات إبان الإحتلال الفرنسي ،من البوكمال شرقا إلى التبني غربا، وأطلعني على رجالات المقاومة والحوادث والمعارك التي جرت فيها ، وقمت بتصوير بعضا من مخطوطاته التي كان أن يقوم بنشرها بكتاب.
وما دفعني للكتابة موقف كان مع المطرب الكبير الراحل محمد الهزاع، أنه وبعد الإنتهاء من إحدى حفلات الأعراس، جلسنا معه بجو أخوي كالعادة وعلى ( جفنة عشا وكاسة جاي ) .
قلت له: أبو جاسم الله يطول عمرك ويعطيك الصحه والعافيه، شكون رأيك نصورلك مجموعة من الأغاني .
قال: والله خوش حجي، وخصوصا بعد ما
شفتوا هل التصوير الحلو، وانوب بأربع كميرات ، ياعين وياليل.
المهم أتفقنا على موعد التصوير ومكانه بصالة سومر، وقمنا بإحضار بعضا من المقتنيات الفخارية والنحاسية والبسط والحصران وما يلزم لهذه الجلسة، واستعرناها من أهل الجود والكرم بقرى ديرالزور القريبة.
وبدأنا بتنفيذ الديكور ومشكورا له الفنان المبدع طارق عمار، وأستغرق ذلك ما يقارب
يومآ كاملا.
وجاء اليوم الموعود، وقمنا بعمل تجربة( تيست ) للأدوات التصوير والمونتاج والإضاءة ، وبدء الإنتظار لقدوم الفنان أبو جاسم، ومضت الساعة الأولى والثانية والثالثة، ولم يحضر أبو جاسم..
أصابنا مجموعة العمل توتر وامتعاض، لدرجة وصلنا لمرحلة اليأس.
وبعد قليل من هذه الحالة، أقبل شخص إنسان ولكنه بهيئة شيطان أو جني.
وصحنا جميعا بصوت واحد : يول وينو أبو جاسم أشو أتأخر.
أجاب بهدوء: يسلم عليكم أبو جاسم ويقلكم أعتذر لأني مرتبط مع جماعة.
قلنا: اللعمى عل هل الورطة.
ذهب الموضوع وكأن شيئا لم يحصل.
وبعدها… حضر الفنان أبو جاسم لإحياء حفل عرس بالصالة، ودخل بكلابيته وبلباسه الشعبي المعروف لدى أغلبنا… خجلا و لم ينطق حرفا واحدا.
إنتهى العرس … جلسنا معه معاتبين.
قال : والله أعتذر منكم، بس إبن هل ال…
وسوس بعقلي، وقاللي لا تروح ترى هذول راح يصورون الأغاني وينزلونها ع السوق ويبيعونها وأنت شكون تستفيد … إبن هل ال…. وانت راح تقعد ( …. ).
قلت له: تعرف أبو جاسم شقد حطينا مصاريف مابين أجور نقل وأشترينا شوي أغراض… وما ارتبطنا بيومين بأعراس بالصالة والله أكثر من خمسين ألف .
قال: ما أعرف، هذا اللي صار، والله أعتذر منكم ، وهاتوا تا أبوس روسكم كلكم.
أكمل حديثه قائلا : أسع ما صار شي أنا جاهز .
قلت: ما عاد ينفع الحجي، بس والله ردنا انكرمك وأنت تستاهل، لأن كل أغانيك مصورة يا بقعدة يا بعرس وردنا تكون وثيقة إلك ، هذا الله وكيلك كل همنا .
علما بأنه قام القلة من المطربين الديرين بتصوير مجموعة من الأغاني بطريقة الفيديو كليب وهم يشكرون عليها .
هذا ما حدث معي والله من وراء القصد وهو خير الشاهدين.
فدعونا نسمع ونسجل ونوثق منهم مباشرة ممن بقي معنا على قيد الحياة من رجالاتنا الذين عملوا بكافة المجالات الثقافية والفكرية والفنية والرياضية والتربوية و ….
… لا أن نسمع عنهم.
هذه دعوة لكل غيور ومحب لبلدنا ،وبعيدا عن المصالح الشخصية و ،…و ،…و ،

شاهد أيضاً

(ألوان بلا عنوان).. حمام السوق بقلم سمير الحاج

قبل العيد بيوم أو يومين في فترة ما قبل السبعينات من القرن الماضي يتجهز الناس …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *