بيت الجد بدير الزور.. ملتقى الثقافات والحضارات

 

بقلم: سعد خليفة

ويسألونك عن بركة أهل الدير.. قل لهم هي رحمة كانت في رجال عرفوا بصفاء نية ويد سخية وعين ملية وبيوت أهل حمية.. بتراحمهم تنزلت البركات فلا محروم بينهم ولا شقية

 

رحلوا وما زلنا نتغنى بخصالهم فمن منا ينسى أبا الظلماء (أحمد الجنيد) وجد الديريين ( فرحان الفياض)  وسبع الدير ( محمد علي )  و أخو خليصة ( ثابت عزاوي)

في رحلتنا اليوم سننتقل بكم إلى رحاب منزل أبو الشيمة ونطوف فيه ونحدثكم عن مزاياه وتاريخه..

 

تسير الأحاديث عن رجال مدينتنا الذين طرزوا حكاياتهم بالمبادئ والقيم التي ورثوها كما يسير نهر الفرات المعطاء، ومنهم السيد حميد الخليفة آل زعرور من مواليد 1885 من فخذ الزعيرات من قبيلة بني خالد والملقب والمعروف “أبو الشيمة” أو “راعي الشيمة”.

 

لقد كان منزله ملتقىً للأقارب والجيران والأصدقاء من التجار من أبناء صنعته في تجارة الأخشاب والصنائع الأخرى من تجارة الحبوب والصوف والخيل وأصحاب المهن الأخرى من أبناء البلد الذين تجمعهم المحبة والود.

 

كما كان للشاعر محمد الفراتي جلساته مع صديق طفولته منذ ايام دير العتيق فكانت جلستهم تخرج الافعى من وكرها، ولاسيما عندما يتبادلان الشعر والعتايا من الفراتي تارةً ومن أبي صالح بصوته الشجي رحمهما الله تارة أخرى.

 

كما كان منزله مركزاً لتجمع الشباب من أبناء الحي برفقة جاره الشيخ محمد سعيد العرفي رحمه الله جاره المقابل لمنزله الذي كان له دور كبير في تثقيف وتوجيه أبناء الحي من الشباب وحثهم على الاهتمام بالعلم والابتعاد عن الشعوذة المنتشرة آنذاك

 

كما كان للأستاذ ممدوح منديل زاوية في هذا المنزل الذي كان يشغل رئيس إدارة نادي الاخوة الثقافي الرياضي وأحد أبناء حميد الخليفة من المنتسبين لهذا النادي وهو أحد طلبة الاستاذ ممدوح والتي كانت أحاديثه بأسلوبه اللطيف ذات محتوى عميق تبني مفاهيم جديدة للحياة العصرية وتنبض بالحياة.

 

كان منزل السيد حميد داراً للقضاء لحل الخلافات والنزاعات والمشاكل التي تحدث بين أقاربه ومعارفه، كما كانت جلساته ترتقي بفكر العوام من الناس وذلك لمعرفته ولذكائه فهو محبوب المجلس للطافته ولأسلوبه الشيق في الكلام

وهذا ما جعل أصدقاءه يحبون رفقته في السفر لحنكته وحسن تصرفه وأخذ الموقف الأنجى والأسلم في وقت كان السفر يحمل الكثير من الصعوبات والمشاق ولرواياته التي كانت تهون على المسافر تعب الطريق.

 

كما كانت لديه معرفة أيضاً في الطرق المائية التي اكتسبها من خلال تجارته، ماجعل الثوار ضد المحتل الفرنسي يعتمدون عليه الثوار في معرفة الطرقات.

 

أما رحلاته للصيد والتي كان يسودها جو من الرحمة والرفق بالحيوان مازالت قصصها تعيش على ألسنة أبنائه والشباب الأرمن الذين عاصروا “أبو الشيمة” الذي كان يأخذهم معه للصيد وذلك من أجل أن يتعرفوا على البيئة المحيطة بالمدينة وللتخفيف عنهم من المآسي التي مروا بها آنذاك.

 

أما النساء في ذلك الملتقى فقد كانت لهم طقوس خاصة في ذلك البيت وهذه الطقوس ديرية بامتياز، فتراهم يتجمعن تارة مع بعضهم لفتل الشعيرية، ويحدوهم في ذلك صوت هذه أو تلك وهي تجود بأبيات من “الفراقيات” أو المولية” إلى أن ينهين العجنة ويحولنها إلى شعيرية تكون مؤونة وتمثل وجبة شهية للديريين على وجبة العشاء في ليالي الشتاء الباردة.

وبالإضافة إلى الشعيرية فقد كانت هنالك أيام خاصة لخبز الكليجة والقراص على التنور الموجود في بهو البيت، وما أجمل الحاجات البسيطة التي يصنعها النسوة من المخرز أو الصوف على كوب من القهوة أو الشاي أو ما يقدم من (زبيب وجوز او بطم او تمر أو حلاوة طحين)

 

أما اللقاء الأجمل عندما تجتمع النسوة العربيات والأرمنيات وهن يتبادلن الخبرات في طهي الطعام فالأرمنيات يعلمهن صناعة المربى والأطعمة المشوية والعربيات يعلمهن صناعة الطعام من القمح والمناسف.

 

يأتي شهر أيار (الشهر المريمي) فتجتمع صبايا الحي من الطائفيين المسيحية والمسلمة وهن يرتدين الثوب الأزرق الطويل والواسع الذي يتوسطه الزنار الأبيض المزين والمجدول والملفوف حول خصر الفتيات وهن يجلسن حول حوض من الزرع في منتصف البهو والتي تسمى “بقجة”، ولم يكن يشغل تلك الفتيات في ريعان شبابهن هموم الدنيا ومشاكلها وحاجاتها، فقد كن متقربات لرب السماء بذاك اللون الأزرق الذي ارتدينه كأثواب للترفع عن الدنيويات.

 

نعم إنه منزل السيد “ابو الشيمة” إنه ملتقى الحضارات والثقافات وإن صاحبه هو الرجل الديري بكل طباعه والتي لا تخلو جلساته من الأحاديث العتيقة والقديمة بقدم ديرنا، فتراه يروي بساطة ذلك المجتمع الديري وطيبة أهله ويتحدث عن الغزوات التي تعرضت لها المدينة وعن السباع التي كانت تدخلها وعن أبوابها ومغامراته في تجارة الأخشاب عن طريق نهر الفرات من تركيا وصولاً لعانة، ناهيك عن أطراف الحكمة التي انبثقت ونبعت من خبرته في الحياة.

 

أما كلامه الذي يغرقك بالعطف والحنان والمحبة والاحترام والتقدير بالإضافة عن روحه المرحة وحبه للطرفة والسجع فتراه يهز شيئاً ما بداخل من يسمعه.. فعلاً إنها دير الشعار فقد سميت بذلك الاسم ليس فقط لكثرة الشعراء بل لوجود المتكلمين الذين يهزون مشاعرك بكلامهم هكذا كان أهل ديرنا وهكذا عرف رجال دير الزور

وهكذا كانت بيوت أجدادنا ملتقى للحضارات تجمع بين الأديان والثقافات والطوائف لكل ما هو جميل.. فقد جمعتهم قلوب الرجال الطيبة والنقية قبل أن تجمعهم تلك البيوت

 

هكذا كان ابو الشيمة حاله حال غالبية أجدادنا الديريين فما طرق بابهم طارق إلا ولبوه، وما استجار بهم أحد إلا و أجاروه،  وما استعان بهم أحد إلا و أعانوه، وبذلك كانوا بركتنا و تاريخنا و قدوتنا  فهم أهل الزلفى وهم السمعة الطيبة، 

رحم الله السيد حميد الخليفة ورحم الله أجدادنا الديريين لما تركوه من أثر طيب من “عين ملية” و بيوت أهل حمية فبتراحمهم تنزلت البركات فلا محروم بينهم ولا شقي.

شاهد أيضاً

(ألوان بلا عنوان).. حمام السوق بقلم سمير الحاج

قبل العيد بيوم أو يومين في فترة ما قبل السبعينات من القرن الماضي يتجهز الناس …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *