رسالة إلى صديقي “خوف”

بقلم الدكتور نزار العاني 

هل تذكر يا “خوف” حين التقينا وجهاً لوجه لأول مرة وتعرفتُ عليك ؟؟ أنا نفسي كدتُ أنسى ذلك . مثل عادتك أيها اللئيم الغادر تسللتَ إلى أوصالي وداعبتَ أعلى كِلْيتي وأغرقتَني بالأدرينالين قبل أن يغرقني وينهبني نهر الفرات ويَطْمسني في لججه ، ليُقال في اليوم التالي بصيغة الماضي : طَمَسَ ابن العاني . كنتُ في السابعة من العمر ، وتسللتُ ظهيرة ذات يوم قاصداً النهرَ للسباحة ولم أكن قد أتقنتها بعد ، وغرقتُ لولا  أن أنقذني شخص من بيت ( نجم ) ، ومنذئذ صرتَ صديقي يا “خوف” ، تأتي وتذهب ، تصل وتقطع ، تزور وتهجر ، وما تزال الخصومة بيننا قائمة .

في التاسعة قررتُ أن أهربَ منك يا “خوف” لألوذ بمرأى الحصباء المُذهبّة المفروشة أمام بستان عبد الجوّاد . اشتريتُ علبة سجائر بثلاث فرنكات ، وبزرا أبيض بفرنك واحد ، وافترشتُ الرّمْلَة وبدأتُ التدخين . وبالمصادفة ، ولم أكن قد (شحطتُ) نَفَساً واحداً ، مَرَّ صديق شقيقي “بديع” فهرعتُ إليه وحلفتُ عليه مثلما يفعل الكبار أن يأخذ سيجارة : تفضّل ،  والله مايصير ، إلّا تاخذ . استجابَ الرجلُ وأخذ السيجارة وذهب مباشرة إلى دكان “بديع” القريب وَفَسَدَ عَلًيْ : أخوك الزَغِيْر يشرب سيجارة ويقرش بزر عند شاطئ بستان عبد الجوّاد (بسبب هذه الوشاية الحقيرة كردٍ على كَرَمي كرهتُ المخبرين طوال عمري ) ! دقائق ، وألقي القبض علي بالجرم المشهود . في سرداب بيتنا المعتم ، يشعل “بديع” سيجارة بعد سيجارة ويحرق بها ظاهر وباطن كفي . والدتي في ( الحُوش) تستغيث وتستنجد ، و” بديع ” الذي أحبّني كما لم يحب أحداً في حياته يريد تربيتي عبر الإمعان في حرق أي مكان يصل إليه ، وأنا أنتفض من الرعب والألم مثل دجاجة قيد الذبح  . رأيتَني يا “خوف” يومذاك بأمِّ عينيك كيف أتعذب . كنتَ شامتاً من إذلالي لك وأنا أقاوم الغَرَق في لقائنا الأول ، فانزرعتَ في عتمة قلبي الطري ، واستطالت أظافرُك لتحفر ذكرى هلعٍ نفسي بالغ الإستدامة في عقلي اللاواعي ، لم أشفَ منه إلا بعد سنوات . لم أقوَ على قهرك يا عزيزي “خوف” ، ولكنك أيضاً لم تَنَلْ مني !! “بديع” أيضا ، مات ولم يشفَ من عذاب ضميره لتلك الصُبْحيّة الساديّة الفريدة !!

كنتُ في الثانية عشرة من العمر حيت أمسكتَ يا “خوف” بتلابيبي وألقيتني أرضاً بعد هزّةٍ أرضية أيقظتْ دمشقَ الياسمين من نومها ، فاستفاقتْ مذعورةً مثلي بعد منتصف الليل بساعتين أو أكثر . وجوهنا ، نحن أهل حارة (عادل النكدي) بعد أن تلَقَّفنا الشارع هي وجوه مَوْتى . لم تعد المسألة مواجهة بيني وبينك يا “خوف” ، ولم تعد القضية شخصيّة ، بل صارت أكبر بكثير ، صارت رعباً جماعيا له نكهة أخرى ، وله مذاق مختلف ، وعلى رغم سطوتك القاهرة انهزمتَ خائباً بسبب تلاحم أكتاف المذعورين  وتشابك أياديهم ، وبسبب التراحم الإنساني الأصيل الذي جمعنا بعد التكبير وقراءة المعوّذات . 

في السادسة عشرة  اختبأتَ يا “خوف” بمكرٍ وراء حكاية  أردت لها أن تكون مدوّية ، وإذا بها تتحول إلى أمثولة !! كنتُ لاعب كرة سلّة في فريق مدرسة التجهيز الأولى بدمشق ، وذهبنا عصر ذات يوم  لمقابلة منتخب سجن القلعة .هناك رأيتُ صديقي وأخي رياض رؤوف الجوزة الذي دعاني إلى ( كاسة) شاي بعد نهاية المباراة في القاووش . خرج فريقي من السجن ونسيني مع ابن بلدي ونحن نجتر ذكريات دير الزور وقسوة الحياة التي يعانيها “رياض” وهو في ريعان شبابه بسبب هفوة غير مقصودة !!  فجأة وجدتُ نفسي مسجونا ، وآمر السجن لا يصدق أنني من لاعبي فريق كرة السلة الذي خضع للعد في الدخول والخروج !! وسقط قلبي من الفزع تحت أقدامي وأنت يا “خوف” تتأمل وتضحك ومعك يضحك ” رياض” الذي احتفل بهذه الورطة السارّة . بعد ساعات من التدقيق والتحقيق لحصر المسؤولية عن هذه الخطيئة التي لا تغتفر أفرجوا عني . كنتُ يا “خوف” كلما تقدم بي العمر ، ازدادت عندي خبرة التحكم بالأدرينالين وضبط مفاعيله . أصبحتَ يا “خوف” من رفاق الدرب لا أكثر ولا أقل . 

دائماً كنتَ تتبعني كظلّي يا صديقي “خوف” . حين أدسّ ورقة تحمل كلمات الغزل في يد ابنة الجيران . حرب ال 56 ودوي صفارات الإنذار والنزول إلى الملاجئ . سحب ورقة صغيرة من الجيب لنقل إجابة على سؤال في إحدى الإمتحانات . نقل سيارة محملة بالذخيرة من دمر إلى دمشق في حرب ال 67 . انتظار الرد على طلب وظيفة . ترقب الحالة الصحية لزوجتي في غرفة الولادة وحيرتي حول صحة المولود وجنسه . المرور من حدود بلد عربي إلى آخر . مصائب الحياة ووقوفي على مقربة من أحباء وأصدقاء وأقارب لفظوا أنفاسهم الأخيرة أمامي . رعب الخلافات الزوجية . خوف الحاجة . حوادث المرور . ( في حادثة واحدة اصطدمت بست سيارات على كوع مطعم دوار القمر وكان ابني حازم بجانبي ووجدته في المقعد الخلفي !!) . أستطيع القول  ياصديقي ” خوف” إنني ما عدتُ أخاف منك بعد أن شحنتني الحياة بمئة لقاحٍ يقيني من كل آفات غدرِك وطيشك وعنادك وسوء تدبيرك . وكدتُ أعلن منذ حوالي 20 سنة إنني انتصرتُ عليك ، وأنه لم يعد بمقدورِك تشغيل حنفية الأدرينالين داخل جسدي حين تشاء .

لكن ، في هذه الأيام فقط ، أيام المحنة السورية الكُبرى ، وفي المساءات الدمشقية الكالحة الكئيبة التي تتمطّى ثوانيها بتكاسل شديد ، في زمن الرجم والراجمات ، وعبث الأقدار بالإذن من نجيب محفوظ ، وفي غبش اختلاط حالة الموت بحالة الحياة والإشتباه الفلسفي في أولوية إحداهما على الأخرى ، أعترف يا صديقي العزيز “خوف” أنك ربحتَ الحرب في النهاية !!

 ها أنذا يا “خوف”  كما شئتَ لي منذ البداية ، طفلاً غريقاً  في ( رَدَّة ) الماء المواجهة لبيت عبد الله الشيخ . تحترق أصابعي في كل ساعة بمياه جهنم وليس بسيجارة يشعلها أخي المرحوم “بديع” . وتهتز الأرض تحتي كل صباح وتستلّ عافيتي من وراء ظهر مديرية الأرصاد التي تؤكد وتنفي وجود هزات أرضية بدمشق . وها أنذا في سجنٍ ممتد من مطبخ بيتي إلى غرفة نومي ، ولا صديقَ مثل “رياض رؤوف الجوزة” يؤنس وحدتي وينسيني توهج الحرية خارج أسوار سجن القلعة . أعترف لك يا ” خوف” إنني أردد مع كل شهقة بقاء هذا التحوير الصادق الديكارتي الشهير: أنا أخاف.. إذاً أنا موجود”

شاهد أيضاً

الشاعر والأديب أحمد عبد الغفور الراوي.. لؤلؤة مكنونة

كثيرة هي الدرر المكنونة التي لم يتح لها أو لم تشأ أن تظهر على الساحة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *