حضارة السومريين في الجزيرة السورية

ثالثاً- حَضَارةُ السُّومريُّون:

السُّومريُّون من الشُّعوب القديمة، ولم يستطيع الباحثون معرفة أصل هذه الشُّعوب واخـتـلـف الــرَّأي حـول أصل الـسـُّومـريـيـن، ويستبعدُ الآثــــاري “طـه بـاقـر” الأصـــل الـجـبـلـي، ويرى “هاري ساكز” أنَّهم جاؤوا من مكان ما من شرق بلاد بابل، ويرى أحمد سوسة أنَّهم جـاؤوا من عيلام الأهـــواز البطائحيَّة المجاورة والمشابهة لبيئتهم الهوريَّة وهو رأي الخبير الآثاري “هند كوك”.

أمَّا المرجح فهناك احتمالين في أصلهم، الأوَّل إنَّهم من “الجزيرة العربية” والثَّاني أنَّ أصلهم أساساً من “سُكَّان العراق الأصليين” وسكنوا قرب روافد دجلة والفرات، وانحدروا مع مجرى النَّهرين جنوباً، أي إنَّ تواجدهم كان في جنوب العراق، وامتزجوا مع العراقيين الأصليين، وكوَّنوا الشَّعبَ السُّومري، ومن هذا الامتزاج بين السُّكَّان النَّازحين والسُّكَّان الأصليين تمَّ تأسيس الحضارة واللُّغة السُّومريَّة.

وقد أيَّد هذا البحث العراقي في الآثار “بهنام أبو الصُّوف” في ردِّه على النَّظريَّة الَّتي جاء بها الباحث البريطاني “مالاون” والَّتي تقول ( إنَّ السُّومريين جاؤوا من أواسط آسيا وسكنوا العراق)، كما إنَّ الباحث العراقي الدُّكتور أبو الصُّوف فنَّد هذا الادِّعاء بعد أنْ درس في جامعة كامبردج خمسةَ أعوامٍ في البحث والدِّراسة وكان تحت إشراف صاحب النَّظرية مالاوان، وخرج ببرهان على إنَّ (السُّومريين لم يأتوا من خارج العراق، إنَّما كانوا في منطقة سوبارتو الَّتي تقع الآن غربي بغداد في الفرات الأوسط. هذا الشَّعب في زمن ما انتقل نحو الجنوب، ونقل معه حضارته الَّتي كانت تختلف عن حضارة بابل وأشور).

وجاء تأيِّيد أستاذه مالاوان لهذه النَّتيجة الَّتي توصل إليها، وقال له “نظريتك صحيحة، وإنَّ السُّومريين شعبٌ عراقيٌّ أصيل لم يأت من مكان أخر”. وهذا يعنى أن هذه الأقوام جذورها عربيَّة.

والسُّومريُّون أوَّلُ من أنشأ دولة واخترعوا رموزاً مسماريَّة للكتابة. وأوَّلُ من استخدم الكتابة المسماريَّة الَّتي ظهرت عن طريقهم كوسيلة للتَّدوين، وعن طريق دراسة هذه الكتابة المسمارية وكشف أسرارها ظهر ما يعرف اليوم بعلم الآشوريات عام 1869. وظهرت الحقيقة على وجود السُّومريين وحضارتهم في أرض الرَّافدين.

وقد اكتشف المستشرق والباحث “هتكس” من هم مخترعو الخط المسماري. ففي عام 1850م راودته الشُّكوك من أنْ يكونَ السَّاميُّون هم أول من اخترعوا الكتابة المسمارية، لأنَّه لا يلائم طبيعة لغتهم من حيث بعض الأصوات الَّتي تتميَّز بها اللُّغات السَّاميَّة النَّابعة من (الجزيرة العربية). وتوصل في شكوكه أنَّ الفضل في اختراع الخطِّ المسماري يعود إلى قوم من غير السَّاميين، استوطنوا البلاد قبلهم، وأنَّ هذه اللُّغة الَّتي تمَّ اكتشافها أطلق عليها “رو لنسن” أسماء متعدِّدة وخاطئة، إلَّا إنَّ التَّسمية الصَّحيحة لهذه اللُّغة المجهولة لم تكتشف إلَّا في عام 1869، إذ قال المستشرق “ابرت” إنَّ لقب (ملك سومر وأكد) الَّذي جاء ذكره في الكتابات المسمارية المكتشفة ينبغي أنْ يُفسَّر بالشَّكلِ التَّالي: إنَّ كلمة أكد يُقصد بها السَّامِيُّون شعوب بابل وأشور، في حين أنَّ كلمة سومر تدلُّ على شعب آخر من غير السَّاميين، هم أصحاب هذه اللُّغة الجديدة.

ثمَّ استمرَّت الحفريات واكتشاف عدَّة آلاف من الوثائق المسمارية المدونة على الأحجار الطِّينيَّة بهذه اللُّغة السُّومريَّة، وكلُّ هذه الاكتشافات عزَّزت فرضية المستشرق ابرت القائلة بأنَّ السُّومريين هم أوَّلُ من استعمل الخطَّ المسماري في تدوين لغتهم الَّتي هي ليست من اللُّغات السَّاميَّة.

أمَّا الدُّكتور “محمَّد بهجت القبيسيِّ” فقد بيَّن (من الهامِّ جداً أنْ ننتبه إلى أنَّ كلمةَ ” سومر ” هي كلمةٌ غير سومريَّة، بل هي عربيَّة أكاديَّة وليست سومريَّة، فقد سمَّى السُّومريُّون أنفسهم / أي ـ أن ـ جي / ثمَّ اعتمدوا تسمية سومر عندما تبنُّوا اللَّهجة العربية الأكَّاديَّة أساساً في حضارتهم وتمثَّلت في دولة أور الثَّالثة، والَّتي جاءت بعدحقبة الجوتيون من عام 2111  إلى 2003 ق.م.[1]

 

وعن اللُّغة السُّومريَّة قال الدُّكتور نائل حنون: (فالكتابة السُّومريَّة هي رمزيةٌ “للفهم” وإعطاء المعنى لكنَّها لا تلفظ) واختلفت هذه الكتابة عن الكتابة الأكَّاديَّة بفرعيها الآشوريِّ والبابليِّ والَّتي تكتب وتلفظ)[2].

وامتدت الحقبة السُّومريَّة من عام 2900 إلى عام 2340 قبل الميلاد.

أمَّا المدن السُّومريَّة والَّتي اكتشفت، فإذا تتبَّعنا نهر الفرات باتِّجاه الغرب لوجدنا في شماله وجنوبه بعضاً من المدن السُّومريَّة وهي مدينة إريدو “أبو شهرين الحديثة” ومدينة أور “المُقَيَّر الحديثة” ومدينة أورك ” والمعروفة الآن باسم الوركاء” ولارْسا ” والمعروفة الآن باسم سنكره” ولكش “سيبرلا الحديثة” ونبور “نفر”. وعندما نتتبَّعُ نهر الفرات في سيره نحو الشِّمال الغربي إلى بابل الَّتي كانت في يوم من الأيام أشهر بلاد الجزيرة “أرض ما بين النَّهرين” نجد إلى شرقها مباشرة بلدة كش مقر أقدم ثقافة عرفت في هذا الإقليم.

والسَّبب الأخر الَّذي أدَّى إلى سقوط السُّلالة السُّومريَّة هي الهجرات المتعاقبة من الآمورين وغيرهم مما جعل وادي الرَّافدين تابعاً لحكم أقوام أجنبيَّة كالأخمينيين والسَّلوقيين والفرثيين والسَّاسانيين، وأدَّى بنفس الوقت أنْ يكونَ السُّومريين الأقلِّيَّة سرعان ما ذابت في المجتمع الجديد.

              

من المكتشفات في مدينة أور السُّومريَّة

       

كوديا ـ حاكم لكش السُّومريَّة

ولكلِّ هذه الأسباب جعلت اللُّغة السُّومريَّة تنقرض بصفتها لغة التَّداول اليوميَّة، إلَّا إنَّ البابليُّون ظلُّوا يحافظون على التُّراث واللُّغة السُّومريَّة، فكانت تدرس إلى جانب اللُّغة البابليَّة. ومن الجدير بالذِّكر أنَّ زمن استيطان القبائل السَّاميَّة في بلاد وادي الرَّافدين يرجع إلى أزمانٍ قديمةٍ سبقت قيام السُّلالة الأكديَّة على يد سرجون الأكديِّ بقرون عديدة، لأنَّ هناك عدداً من أسماء الملوك الَّذين حكموا السُّلالات السُّومريَّة الَّتي شكَّلت أنظمة سياسيَّة تمثلت في دويلات المدن السُّومريَّة، كانوا يحملون أسماء ساميَّة. وقد استطاع سرجون الأكديِّ الَّذي هو من القبائل التي ارتحلت من الجزيرة العربية، واستوطنت في بلاد بابل منذ الألف الرَّابع قبل الميلاد من فرض سيطرته على البلاد، وتوحيد دويلات المدن، وإقامة إمبراطورية.

وكثيرٌ من الباحثين يتعجبون بعدم ورود اسم سومر في أسفار التَّوراة، ومعروفٌ أنَّ التَّوراة اشتملت على ذكرِ كثيرٍ من أسماء المدن والبلدان، وأسماء الشُّعوب والأقوام والقبائل التي سكنت العراق وسورية وفلسطين ومصر، ومع كلِّ ذلك فليس هناك أيَّة إشارة إلى سومر أو السُّومريين أطلاقاً، باستثناء كلمة واحدة (شنعار) الَّتي مازالت غامضة المفهوم ومبهمة. إلَّا إنَّ بعض الباحثين والمستشرقين يعتقدون أنَّها تحريف لكلمة (شومر) أي بلاد سومر، وقد استطاع أستاذ السُّومريَّات الدُّكتور” بوبل” أنْ يُثبتَ أنَّ الاسم العبري (شيم) وبالعربي سام مشتقٌّ من كلمة (شومر) أيْ سومر، وهنا يحاول إرجاع اسم سام جدِّ السَّاميين إلى سومر.

ويُؤكِّدُ كثير من الباحثين في الشَّأن السُّومريِّ بأنَّهم ليسوا أقدم من استوطنوا في جنوب العراق، حيث أنَّ أقدمَ الأدوار لاستيطان الجنوب تعود إلى دور العبيد (4500 – 4000) قبل الميلاد، ثمَّ تلاه دور الوركاء ثمَّ دور جمرة نصر. ويقول الباحثون إنَّ سُكَّان دور العبيد ليسوا سومريين، لأنَّ السُّومريين بقوا في كلِّ العصور التَّاريخيَّة اللَّاحقة في حدود المنطقة الجنوبية من العراق.

ويقول عالم السُّومريَّات الدُّكتور”لاندز بيركر” من جامعة شيكاغو، الَّذي اهتمَّ بالجانب اللُّغوي من خلال دراسته لمجموعة المفردات الموجودة في الوثائق والأختام السُّومريَّة الَّتي كتبت منذ الألف الثَّالث قبل الميلاد، فوجد أنَّ تلك المفردات حسب اعتقاده ليست سومريَّة الأصل، أي أنَّها مفردات دخيلة، فأعتبر أنَّ تلك المفردات الَّتي تحتوي على مقطعين أو أكثر تختلف عن الكلمات السُّومريَّة الأصيلة الَّتي تحتوي على مقطع واحد بصورة عامة، لذلك اعتبر أنَّ تلك المجموعة من المفردات تراثاً لغوياً قديماً يعود إلى قوم مجهولي الهوية، سبقوا السُّومريين والأكَّاديين في استيطان جنوب العراق، وأنَّ السُّومريين بعد مجيئهم إلى هناك تداولوا نفس تلك الكلمات في لغتهم وكتاباتهم.

وقد أطلق الدُّكتور “بيركر” تسمية (الفراتيون الأوائل) سُكَّان العُبيد على هؤلاء القوم الَّذين تعود إليهم تلك المفردات الدَّخيلة.

ويُؤكد الدُّكتور “غلب” ( إنَّ الانتشار المعروف لدور العُبيد من جنوب وإلى شمال وادي الرَّافدين، وأسماء المدن وحضارتهم ليست سومريَّة، وهذا ممَّا يدلُّ على أنَّه هناك أقوام أخرى سبقتهم في الاستيطان وهم سُكَّان العُبيد، بدليل وجود مكتشفات حضاريَّة من صناعة الفخار والأختام والعمارة)  ثمَّ يقول أيضاً (أنَّه من الواضح إنَّ أسماء المدن المذكورة لا يمكن أنْ تكونَ أكديَّة أيضاً، لأنَّ السَّاميين شأنهم شأن السُّومريين كانوا بكلِّ وضوح وافدين جدد إلى بلاد الرَّافدين، وإنَّهم فرضوا أنفسهم على قوم آخرين مجهولي الهوية، ويقصد بهم (الفراتيين الأوائل) سُكَّان العُبيد، نسبة إلى تل العبيد قرب أور، هم يمثِّلون أقدم استيطان في جنوب بلاد وادي الرَّافدين والَّذي يرجع عصره إلى حدود 4000 قبل الميلاد. ومن هنا يتبيَّن لنا أنَّ السُّومرييِّن استوطنوا في وادي الرَّافدين خلال دور الوركاء، الَّذي تلا عصر العُبيد الَّذي شهد ظهور المدينة مثل الوركاء حيث بلغ سُكَّانها ما يقارب من خمسين ألف نسمة، وكان يحيط بها سور بلغ محيطه تسعة كيلومترات)[3].

وقد استطاع المختصُّون بالكتابات المسماريَّة تشخيص اللُّغة الآكديَّة على أنَّها من اللُّغات السَّامية لتشابهها مع اللُّغات السَّاميَّة الأخرى.  إنَّ لغة الأكَّادييِّن تعود في أصولها إلى عائلة لغات الجزيرة الأمِّ، الَّتي تفرَّعت منها باقي اللُّغات البابليَّة والآشوريَّة والكنعانيَّة والفينيقيَّة والآراميَّة والنَّبطيَّة والعربيَّة والعبريَّة، وكلُّ هذه اللُّغات تُسمَّى باللُّغات السَّاميَّة. بينما اللُّغة السُّومريَّة لغة ملصقة مازالت عائلتها اللُّغويَّة مجهولةَ الهويَّة.  ويَعتبرُ معظم الباحثين إنَّ الأكَّادييِّن هم أقدم هجرات قبائل الجزيرة إلى وادي الرَّافدين. وإنَّ لغتهم انحدرت منها اللَّهجات (البابليَّة والآشوريَّة).  وقال العالم النِّمساويُّ “شلو تسر” عام 1781م بأنَّ الأقوام المتكلِّمة بتلك اللُّغات قد انحدرت جميعهاً من جدٍّ واحدٍ هو سام بن نوح.

وقد لاقى مصطلح (السَّاميُّون) واللُّغات السَّاميَّة تقبلاً من المستشرقين والباحثين، وشاع استعماله لحد الآن بينهم.

ويؤكِّد المستشرق “بيركر” أيضاً بأنَّه كانت هناك أقوام أخرى سكنت العراق قبل السُّومرييِّن من خلال وجود أسماء سبع مدن على أنَّها غير سومريَّة.  أمَّا الدُّكتور “غلب” فقد قال إنَّها تسعةٌ وعشرون اسماً لا سومريَّة ولا ساميَّة الأصل.  أمَّا الدُّكتور “جورج رو” فإنَّه يعارض هذه الاطروحات، لأنَّ ذلك لا يعني بالضَّرورة وجود أقوام استوطنت هذه المنطقة إبان حقبة تاريخيَّة أكثر قدماً من السُّومرييِّن والسَّامييِّن.

نعم إنِّ المستشرقين يدورون في حلقة مفرغة وغامضة بحثاً عن أصل السُّومرييِّن، ولغتهم وخصائصها ولهجاتها، ووجود الأقوام السَّابقة من سُكَّان الفراتين الأوائل. ويقول الدُّكتور “فرانكفورت” (إنَّ الأقوام السَّابقة قبل السُّومرييِّن مجرد ملاحقة، وهم لا وجود لهم مطلقاً)[4].

[1]-  النَّبيُّ والأكراد. ص40

[2]-  بحوثه عن الكتابات المسمارية.

[3]-  دراسته المعنونة (السُّومريُّون والأكَّديُّون في علاقتهم العرقية واللُّغوية).

[4]- ميلاد الحضارة.  

شاهد أيضاً

دير الزور.. لمعة في تاريخها ((مقال عن مدينة دير الزور قبل نحو 114 سنة ))

بقلم الأديب عبد الكريم نوري أستاذ اللغة الفرنسية سابقاً بلواء دير الزور.. تحرير و تدقيق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *