منذ صغري عشت مجاوراً لنهر الفرات العظيم، فتكون لدي مخزون كبير من الحكايا والذكريات مع هذا النهر أيام عزه وفيضانه، وأيام انحناء ظهره وانكساره،فشارع النهر وسط المدينة شكل حالة ثقافية حضارية أفرزت لاحقاً نتاجها من خلال أبناء المحافظة النجباء.
مفردة الفرات في التاريخ
الفرات تعني الماء العذب، فقد ورد ذكر الفرات في الديانة المسيحية سفر التكوين، (إن الفرات نهر من أنهار الجنة)، وفي الديانة الإسلامية ورد ذكره في القرآن الكريم، (ومايستوي البحران،هذا عذب فرات سائغ شرابه،وهذا ملح أجاج)،(وسقيناكم ماء فراتا). ازدهرت على ضفاف الفرات حضارة وامبراطورية مابين النهرين التي كانت جزءاً من الهلال الخصيب وطريق الحرير،كما بنيت آلاف المدن والقرى بعضها لايزال قائماً إلى اليوم.
قبل اثنتي عشر ألف عام كانت ضفاف دجلة والفرات ومابينهما المهد الأساس لابتكار الزراعة المروية حيث استثمرت هذه الأراضي الخصبة على مر السنين في زراعة القمح والشعير والقطن والذرة،كما مورست مهنة صيد الأسماك، والنقل النهري، والتجارة، وأنشطة اقتصادية بينية كثيرة في وادي الفرات،كما أقيم على النهر أكثر من ثلاثين سداً لاستصلاح وري الأراضي الواسعة الممتدة، وتوليد الطاقة الكهربائية من مساقط تلك السدود.
الجزر الفراتية (الحوايج)
تكثر في نهر الفرات الجزر أو كما تسمى بلهجة أهل المنطقة(حوايج،جمع حويجة)ففي مجراه (سريره)بالدير نجد (حوايج التبني، البومصعة، الدم، صكر، كاطع…). كنا نسبح مع جريان النهر(نسيس)من (حلبية وزلبية) مروراً فيها لتناول بعض الطعام ثم نكمل المسير…ومما شاهدناه أو سمعناه أن بعض هذه الحوايج كانت موئلاً لعدد غير قليل من الطيور النادرة والحيوانات المفترسة، وذلك يعود لبكارة هذه الحوايج التي لم تخربها يد الإنسان،كما عرفنا أيضا أن هذه الحوايج تحتوي على نباتات نهرية نادرة، وأشجار كثيفة غريبة لاتنمو إلا في كنف الفرات، من هذه النباتات والأشجار( الحور الفراتي، الصفصاف،الغرب،الزل،الكينا،الزيزفون، الحلفا،عرق السوس…)، أما الحيوانات (الضبع المخطط،الذئب الرمادي، النمر الفراتي،ابن آوى…)، كما يعيش في نهر الفرات العديد من أنواع الأسماك( الشبوط،البني، الرومي، البوري،الكارب،الجري، الخشيني،أبو الزنير،المدقدق،المطواق،الجزر…)، عادةً يقوم الصيادون بتطعيم مكان الصيد(الردة)وذلك بإلقاء دم الحيوانات وبعض لحومها قبل يوم من الصيد ثم يقومون بنصب الشباك أو إلقاء الديناميت أو رمي(البلاليع)وهي خيوط نايلون تنتهي بسنارة حديدية فيها طعم، ومما أذكره أني كنت وصديقي شعلان عبيد رحمه الله نراقب صياداً في يوم قائظ نصب عدة بلاليع وجلس ينتظر (تحت جرداق إفرام ملوح)،فجأة تحرك أحد خيوط الصيد (نَقَفْ)، فقام الصياد بمحاولة سحبه لكن قوة كبيرة كانت تعاكسه، هنا انتخى بنا الصياد فساعدناه بسحب الخيط…وإذا بسمكة كبيرة أخرجناها للشاطىء وهي تنتفض ،فحملها الصياد وباعها ل(شريف النصرة)، بياع السمك المقلي الذي كان محله تحت مخفر الجادة.
السباحة في نهر الفرات
في أيام الصيف كان أخي الكبير يصطحبني معه إلى بستان(علاوي الحميد)، والد الأطباء عبدالرزاق وفاخر رحمهما الله،كان الطريق ضيقاً يخترق بساتين عبدالجواد، وبيت اعمير، و مثقال، وجمعة اليوسف قبل شق الطريق الواصل من بيت طه المغير إلى جسر الجورة بعد منتصف الستينيات، حيث قامت ببنائه شركة يوغسلافية عملاقة. تعلمت السباحة وأنا في الصف الثالث الإبتدائي على يد المرحوم د. عبدالرزاق (أبا عمر) الذي أزال عني رهبة النزول في النهر والذي كان يوصيني بألا أسبح في(الردتين)قبالتهم لأن مياهها راكدة تكثر فيها(الغوالات) التي تغرق أمهر السباحين، كما أوصاني بعدم الاقتراب من النباتات التي تكون في النهر أو قريبة من الشاطئ (الزَل)، لأنها تلتف حول ساقي من يقترب منها وتودي به إلى الغرق. كانت ذروة فيضان النهر في شهري نيسان وأيار حيث تغمر مياه النهر البساتين والقرى القريبة من ضفافه.
في أحد أشهر الصيف زارتنا باحثة ألمانية تدرس حضارات الشرق القديم،فتعرفت عن طريق قريب لي إلى الباحث عبدالقادر عياش رحمه الله الذي استضافها في رحلة نهرية مروراً بالحوايج فأعجبت بما شاهدت من طيور وحيوانات ونباتات وطبيعة بكر …ثم غادرت باتجاه القائم العراقية.
لدغ الدبور(الزنبران)
مما أذكر أيضا أني تسللت خلسة في ظهيرة أحد أيام الصيف دون علم أهلي وذهبت إلى أبناء خالاتي(أبناء عبدالباقي وجميل جواد،و أقرباءنا أبناء الآلوسي وحطاب)، هناك على ضفاف الحصيوة وأنا مستلق فوق الرمل، كنت أتحدث مع فايز رحمه الله، وإذ بألم شديد بإصبع قدمي اليمنى، فصرخت بصوتٍ عال جعل كل من حولي يهب لنجدتي، بعد المعاينة تبين أن دبوراً قد قرصني، وضعوا فوق مكان اللدغ (حري مجبول مع ماء ) دون فائدة. بدأ وجهي بالتورم،الجفون،الشفاه،جسمي انتشرت عليه بقع حمراء حاكة ومزعجة فكان لابد من إسعافي إلى المستشفى الوطني، حيث كان الدكتور أمين نصر رحمه الله مقيماً، زرقني بثلاث أبر، وأعطاني سيروم وريدي، ووضع لي قناع لاستنشاق الأوكسجين لأنني أصبت بعسر تنفس وتسرع بضربات القلب، بقيت يوما كاملاً في المستشفى حتى خف الورم والألم.
الجراديق والمتنزهات الصيفية
شارع النهر الجميل كان يرش يوميا بالماء من قبل عمال البلدية ب (رشاش البلدية)، للتخفيف من وهج حرارة الإسفلت صيفاً حيث الشمس تنطحه طوال اليوم. على امتداد الشارع، كنت تجد أشجار الفرطوس والزيزفون والكينا والحور الفراتي، والجراديق والمطاعم ودور السينما والمسارح، أول هذه الجراديق من جهة الغرب جرداق حج رزوق، فيه مطعم وتتبع له سينما القاهرة الصيفية، ثم جرداق صالح الملحم مكانه حالياً بناء الإسعاف التابع للمستشفى الوطني، قبالته كان مسرح (تياترو)، شيد مكانه بناء جميل لعبدالقادر عياش، الذي باعه عام ١٩٦٨ لسليمان الرداوي، ثم تجد بعده جرداق عيد الصياح الذي استثمره بعده (أبو عبدالله الشخلها)، ومن بعده وجيه حوكان، قبالته كان مطعم أبو نخلة، وجواره جرداق إفرام ملوح حيث استثمره من بعده عبداللطيف دريعي، ثم صار فيما بعد تابعا لمطعم علي بابا ومكتب باصات الكرنك، بعده تجد (تياترو)، الذي تحول إلى سينما فؤاد الصيفية، قبالتها شجرة فرطوس عالية جداً يتسلق عليها الصبيان لمشاهدة فيلم السينما، وكثيراً ًمايأتي شرطي لإنزالهم منها. شرقاً على زاوية تقاطع شارع النهر مع الشارع العام تقع مقهى عصمان بيك الشهيرة ملتقى طبقات المجتمع الديري، وأخيراً مقهى السرايا العريقة المجاورة لقصر السراي الحكومي القديم والذي تحول إلى مركز قيادة الشرطة، هذه المقهى آلت أخيرا لآل سوادي.