الملا و الخوجة .. وتعليم أبناء دير الزور

 

«كان الناس في الأيام الغابرة يعانون الجهل الذي يخيم عليهم وهم يعيشون في بحر الأمية والذي سببه الاستعمار والظلم والجور الجاثم على أبناء هذا الشعب، فالتعليم والعلم كانا وقفاً على نفر يسير من الناس من أصحاب الأموال،

أما الطبقة الفقيرة فكانت تلجأ لتعليم أولادها عند الكتاتيب والتي كان أصحابها يجعلون منها مصدر رزق لهم ولعيالهم، حيث كان يجتمع عدد من الأولاد في بيت “الملا” (وهو معلم القرآن)…. حاملين معهم(الألف باء) ويتدرجون في القراءة وحفظها، ثم ينتقل الولد أو البنت شيئا فشيئا إلى بعض أجزاء القرآن من جزء (عم) إلى (تبارك) إلى (قد سمع) إلى (الذريات)…..

ثم يستوهب قرآنا ويبدأ بحفظ آياته شيئا فشيا حتى ينهيه حفظا وقراءة، إلى أن يختمه». هكذا وصف الباحث “زبير سلطان” عضو اتحاد الكتاب “بدير الزور” التعليم في الكتاتيب والذي يطلق عليه في بعض الأحيان “الملا” أو “الشيخ” في حين يطلق على الكتاتيب من الإناث “الخوجة”.

وتابع “السلطان” حديثه عن الكتاب واصفا أماكن دروس العلم بالقول: «لا بد من تصوير المكان الذي يؤمه طلبة العلم هؤلاء: ففي الصيف يجلس الجميع تحت سيباط (شمسية من الزرع) يأتي به أصحاب العلاقة من شجر السوس الترابي على طرف النهر وتثبت أربع ركائز قوية تسمى واحدتها (شدحه) وتركز على هذه الشدح أعمدة من الحور ثم يسقف السيباط هذا بأغصان السوس أو الغرب، وبجانب السيباط يوضع زير للماء يسمى (مزملة) يعلق عليها (طاسة) صنعت من سعف النخيل والعلك السود (منشل) أو توضع طاسة عادية، وتمد الأرض بالحصران ويجلس الجميع عليها بالاتجاه الذي يجلس فيه “المَلا”، وهم يحملون كتبهم.. ثم يعطي “الملا” للأولاد فرصة أثناء القراءة تسمى ساعة تنفس (أي راحة) ثم يتابعون القراءة حتى أذان الظهر، وقبل الانصراف بقليل يؤدي الأولاد قراءة بصوت عال تسمى (زجة الصرفة)».

أما عن الأتعاب التي يحصل عليها “الملا” يقول “السلطان”: «يتقاضى”الملا” لقاء الختمة الكاملة للقرآن ليرتان ذهبيتان، وأثناء الانتقال من جزء إلى آخر يعطي الولد حلاوة وهو مبلغ من المال للملا، ويشارك جميع الطلبة بتقديم قيمة الحصران والمزامل، وفي الشتاء يشترون مدفأة، ويحضرون الحطب اللازم لتدفئة المكان،

كما يغدق أهل الأولاد الهدايا يوميا “للملا” من أجل ترغيبه في تعليم أطفالهم على الوجه الأكمل، وفي الوقت ذاته كان الطلبة يستفيدون ماديا من الكتاتيب عندما يستخدمهم الملا في الإنشاد في المناسبات مثل (الطهور والزواج والحج والولادة)، حيث يقوم أهل الدار إما بإعطائهم أشياء عينية، أو دراهم يأخذها الأولاد بدورهم إلى الملا، والذي يكرمهم بإعطائهم باقي اليوم عطلة، وتسمى (الصرفة)،

وما أن ينتهي أحد الطلبة من ختمة القرآن حتى يعطى أهله خبراً من قبل “الملا” بأن الختمة قد حانت، بهدف قبض الليرتين أولا، وإقامة الفرح في هذه المناسبة ثانيا، حيث يبدأ أهل البيت بإقامة الأفراح ومدتها لا تقل عن أسبوع، وهي تشبه إلى حد ما أفراح الزواج، وفي اليوم المحدد تربط يدي الطفل (بالهباري والإشاربات) الملونة ويلبس الثياب الجديدة ويضع على رأسه طاقية مطرزة بالقصب الذهبي وعليها (شناشيل) وأنواع من قطع الذهب، ويتقدم زملاؤه ويقوده اثنان منهم ومن خلفه الأقارب والأهل يزغردون ويغنون مارين بالشوارع، حيث تنهال عليهم (الطشوشات) من الأقارب والأصدقاء.

وبعدها يعود الجميع إلى البيت، حيث يفك رباط الختمة من قبل شخص مقرب، وفي هذه الأثناء يقوم الأب أو الأم بتسليم الليرتان الذهبيتان “للملا” بين الأهازيج والأغاريد، وهذا يكون بعد أن يقرأ الصبي بداية سورة “البقرة” أمام أهله إلى أن يصل إلى (ختم الله على قلوبهم)، وهنا يبدأ الأولاد بدغدغة وقرص الولد، وهي عادة موروثة، بعدها يقدم الطعام للحاضرين من الذبائح ابتهاجاً بهذه المناسبة السعيدة».

وعن العقاب الذي كان يطبقه “الملا” على الأولاد يقول “السلطان”: «يضع إشارة بفلينة غمست بالحبر وختم بها على فخذ الولد لكي لا يسبح في النهر، وتراقب هذه العلامة يومياً وإذا مسحت يعاقب (بالفلقة)، أما العقوبات الجماعية فتكون قراءة سورتين من القرآن من قبل الجميع وبصوت مسموع.

ولكلمة “الملا” هيبة عند الأولاد كما يفرض هذا الاحترام بسبب العقوبات القاسية الصادرة عن “الملا” بحق الطلاب المقصرين عن القراءة ولمن يشكوه أهله إلى “الملا” بسبب بعض الأعمال غير اللائقة وخصوصا الخروج عن طاعة والديه، حيث كانت الفلقة أهم وأشد عقوبه ينالها المقصر، وهي عبارة عن عصا غليظة مدلى منها حبل ربط طرفاه بطرفي العصا فتوضع ساقا المذنب داخلها ويلف الحبل عليها لفا محكما بواسطة شخصين قويين كل منهما يشد طرفا من العصا، ثم يشرع “الملا” بضربه على راحتي قدميه ضربا مبرحا، وأعتقد أن من ينال هذا الجزاء يتحاشى أن يتعرض إليه ثانية، أما (الجزاء) فهو وقوف المذنب على قدم واحدة باتجاه الجدار مع رفع يديه إلى الأعلى، وقد لجأ بعض “الملالي” لدهن وجه المذنب بالدبس ويوقف في الشمس ليجتمع عليه الذباب ويصبح أضحوكة لرفاقه».

ومن هؤلاء الملالي التي عرفتهم محافظة “ديرالزور” (ملا غفور، عبد الفتاح البعاج، ملا حسن، سليمان الكواكة، أحمد البشعان، وملا محمود، ملا حساني، ملا حميدي، ملا عبد الرحمن)

أماالخواجات فهم (خوجة صالحة، خوجة مرهونة، خوجة فاطمة، خوجة فطمة خانم، خوجة سارة، خوجة سكنة).

 

وهذه الصور توضيحة وليست من محافظة دير الزور 

 

 

بقلم : محمد الحيجي

شاهد أيضاً

دير الزور.. لمعة في تاريخها ((مقال عن مدينة دير الزور قبل نحو 114 سنة ))

بقلم الأديب عبد الكريم نوري أستاذ اللغة الفرنسية سابقاً بلواء دير الزور.. تحرير و تدقيق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *