حضارةُ السَّاسانيِّين في الجزيرة السورية

حضارةُ السَّاسانيِّين

كانت الدَّولة السَّاسانيَّة تحكم بلاد إيران منذ القرن الثَّالث وحتَّى منتصف القرن السَّابع ميلادي، وسيطرَّت السُّلالة السَّاسانيَّة على إيران لمدة أربعة قرون ونصف، وحكم فيها قرابة أربعين ملكاً، ويِكوِّنُ الفرس مادة الامبراطوريَّة، ولكنَّها أخضعت التُّرك في بلاد ما وراء النَّهر، والعرب في العراق.

الإمبراطورية الساسانية

 وترجع تسمية “السَّاسانيِّين” إلى الكاهن الزَّرادشتي ساسان الَّذي كان جدُّ أوَّل ملوك السَّاسانيِّين أردشير الأوَّل.  أُسسِّت السُّلالة السَّاسانيَّة مِن قِبل الملك أردشير الأوَّل بعد هَزيمة ملكِ البارثيِّين / الفرثيِّين الأشكانيِّين الأخير ارتبانوس الرَّابع، وانتهتْ عندما حاول ملك الدَّولة السَّاسانيَّة الأخير يزدجرد جرد الثَّالث (632 – 651) إلى مكافحة الخلافة الإسلامية المبكرة، أوَّل الامبراطوريات الإسلاميَّة لمدة 14 سنةً. أمَّا أرض الامبراطوريَّةَ السَّاسانيَّة فقد أحاطتْ كلَّ إيران اليوم والعراق وأجزاء من أرمينيا وأفغانستان والأجزاء الشَّرقيَّة من تركيا وأجزاء من باكستان.

وجاء في أطلس تاريخ الإسلام: “هناك مبالغة في نصوص تصوير اتِّساع دولة فارس في العصر الإيرانيِّ، لأنَّ فارس لم تكن قط في أي عصر من عصور تاريخها قبل الإسلام دولة ثابتة الحدود. إنَّما كانت حدودها تتسع أحياناً في عصور الملوك الأقوياء، وتنقبض في عصور الضُّعفاء وهم الأكثرون”.

أستطاع الملك أردشير الأوَّل تَوسيع امبراطوريَّته الجديدةِ أبعد إلى الشَّرقِ والمنطقة الشِّماليَّة الغربيَّةِ، واستطاع أن يفتحَ محافظات جرجان وسيستان وخراسان ومرجيانا وبلخ وخوارزم، وأضافَ البحرين أيضاً والموصل إلى الامبراطوريَّة السَّاسانيَّة. ويصف الطَّبري والفردوسي والأصفهاني “أردشير” بالرجل الحكيم والقوي، واستطاع في سنوات قليلة إخضاع كلِّ إيران الغربية وبابل والمناطق الشَّرقيَّة، وجعلها تحت سيطرته المباشرة.

أستمرَّ الملك شابور الأوَّل (241-272) ابن الملك المؤسس “أردشير الأوَّل” بالتوسّعِ للإمبراطورية السَّاسانيَّة، واستطاع أن يَفْتح باكتريا كوشان، وقاد الملك شابور الأوَّل عِدَّة حمـــلات ضدَّ الامبراطوريَّة الرُّومانيَّة بالدُّخول في العُمق للأرضِ الرُّومانيَّة، وفتح الملك شابور الأوَّل وسلب انتوتشيا في سوريَّة  في سنة 253 م أَو 256 م. وفي نهاية الأمر أستطاع الملك شابور الأوَّل هزيمة الأباطرةَ الرُّومانَ جورديان الثَّالث (238 -244) وفيليب العربي (244 -249) ، واستطاع هزيمة وأسر الامبراطور الرُّومانيِّ فاليريون في عام 259م ووضعه في السِّجنِ الفارسيِ بعد معركةِ “إيديسا” الَّتي أصابت الرُّومان بخزي كبير.

في عــــام 253م هاجـــــــــم الشَّـــــاه شــابور الأوَّل الامبراطـــــــور الرُّومـــــانيَّ فاليريــــانوس في معركة جرت بينهما سنة 260م قرب مدينة الرَّها، فوقع الامبراطور الرُّومانيُّ في الأسر وسيق أسيراً مع أكثر من 60 ألفا من جنوده إلى إيران، وأثناء تراجع سابور الأوَّل إلى إيران تعرض لهزيمة أمام ملك تدمر أذينة الثَّاني في شمال سوريَّة.

بين عامي 260 م و263 م فَقَدَ الملك شابور الأوَّل بعض الأراضي الَّتي احتلَّها، فقد استولى عليها الملك “أودينثوس” حاكم مملكة تدمر العربيَّة الحليف للرُّومان، واستطاع ملك تدمر استعادة الشَّرق الرُّومانيِّ الَّذي احتلَّه الفرس السَّاسانيُّون وإعادته للإمبراطورية الرُّومانيَّة.

بعد موت الملك الساساني “هرمز الثَّاني” تعرَّضت الامبراطوريَّة السَّاسانيَّة للهجمات الجنوبية من العرب فبدؤوا الهجوم على المدن الجنوبية وسلبها وتدميرها، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك وبدأوا بالهجوم على محافظة فارس مسقط  رأس الملوك السَّاسانيِّين  وذلك بسبب قيام البلاء في الدَّولة بقتل ابن الملك هرمز الثَّاني، وأعدموا ابنه الثَّاني، وسجنوا ابنه الثَّالث الَّذي فرَّ لاحقاً إلى الأراضي الرُّومانيَّة، وحجز النُّبلاء عرش الدَّولة السَّاسانيَّة للابن الَّذي لم يولد بعد من زوجات الملك هرمز الثَّاني، ويُقال إنَّ الملك شابور الثَّاني (309-379) هو الملك الوحيد في التَّاريخ الَّذي تمَّ تتويجه وهو في رحم أمِّه، وقد تمَّ وضع تاج الملك على بطن أمِّه، فالطِّفل شابور وُلِدَ ملكاً، وأثناء شبابه كانت الامبراطوريَّة السَّاسانيَّة تحت سيطرة أمِّه والنُّبلاء في الدَّولة، فأنتشر بين العرب والرُّومان والأتراك أن ملك الفرس صغيراً، فطمعوا في المملكة السَّاسانيَّة، ولكنَّ شابور الثَّاني أثبت نشاطه وفعاليته في الحكم عند بلوغه سنِّ الرُّشد، وقد قاد جيشه جنوباً ضدَّ العرب واستطاع تأمين المناطق الجنوبية مِنَ الامبراطوريَّةِ، ثمَّ بَدأَ حملتَه الأولى ضدَّ الرُّومان في الغرب، وحصد نجاحاً مبكِّراً بعد حصار سنجاره. على أيَّة حال فإنَّ فتوحاته أوقفتها هجماتِ الأتراك البدائيِّين على طول الحدودِ الشَّرقيَّةِ للإمبراطورية السَّاسانيَّة وهدَّدتْ هذه الهجماتِ ترانسوكسيانا وهي منطقة حرجة بشكل استراتيجي يكون فيها سيطرةِ الفرس على طريق الحرير، بالإضافة إلى أنَّ قوات الملك شابور الثَّاني العسكرية ما كَانتْ كافيةَ للسَّيطرة على الأراضي الغربية الَّتي احتلَّها، فاضطرَّ إلى توقيع معاهدة سلام مع الامبراطور البيزنطي “كوستنتيوس الثَّاني” والَّتي فيها وافقَ كلا الجانبين ألَّا يُهاجمَ أراضي بعضهم البعضِ لفترة زمنيَّة محدَّدة.

بعد ذلك زَحفَ الملك شابور الثَّاني بجيوشه شرقاً نحو ترانسوكسيانا لمقَابَلَة الأتراك الشَّرقيِّين البدائيِّين وسَحَقَ القبائل الآسيويةَ. وبعد الملك “قباذ الأوَّل” أعتلى العرش أبنه كسرى الأوَّل (532-579) المعروف بأنوشِروان (الرُّوحِ الخالدة)، والملك كسرى الأوَّل هو الأكثر شهرةً بين الملوك السَّاسانيِّين بسبب إصلاحاتِه في السُّلطة السَّاسانيَّة الحاكمة. في سنة 540 م كسر الملك كسرى الأوَّل معاهدة السَّلام الأبدي مع الرُّومان الَّتي حصلت في 532 م، وغَزا سوريَّا، حيث حاصر بشكل مؤقت مدينةَ أنطاكيَّة، وجمع أموالاً من المدن البيزنطيَّة المختلفة في طريق عودته. في سنة 527م شهد الرِّيف المجاور لنهري البليخ والخابور معارك طاحنة بين البيزنطيِّين والفرس انتهت بعقد معاهدة سلام دائم عام 532م مع الامبراطورِ البيزنطيِّ جوستينيان الأوَّل، مقابل أنْ يدفعوا للفرس مبلغاً كبيراً من الذَّهب سنوياً، إلَّا أنَّ السَّلام لم يدم طويلاً وجدَّد الفرس نشاطهم زمن كسرى أنوشروان، وتعرضت مدن الجزيرة للاجتياح أكثر من مرَّة من قبل الجيوش السَّاسانيَّة أو من فرق المناذرة، ووصلوا حتَّى مدينة أنطاكيَّة، وفي النِّهاية توصلا إلى سلام لمدَّة خمسين عاماً في عام 562م.

بعد اغتيالِ الملك كسرى الثَّاني انتشرت الفوضى في الدَّولة السَّاسانيَّة على مدى أربعَ عشْرةَ سنةً، وجاء بعد كسرى الثَّاني اثنا عشرَ ملكاً متعاقبون من ضمنهم اثنتان مِنْ بناتِ كسرى الثَّاني “براندخت وازرم دخت”، وضعفت الامبراطوريَّة السَّاسانيَّة إلى حدِّ كبير، وتغيَّرت قوَّة السُّلطة المركزية على أيدي جنرالاتِ الجيش، واستغرقت هذه الفوضى عِدَّة سَنَوات واستفاد من هذا الوضع العرب المسلمون الَّذين ظهروا قوَّةً ناهضةً جديدة في جزيرة العرب واستطاعت تقويض الدَّولة السَّاسانيَّة وإنهاء وجودها في منتصف القرن السَّابع الميلادي ففي عام 632 م اعتلى العرش السَّاسانيَّ  يزدجر الثَّالث حفيد الملك كسرى الثَّاني الَّذي عاشَ في اصطخر، وفي تلك السَّنَةِ نفسهاِ بدأت الفتوحات الإسلاميَّة العربيَّة الأولى لبلاد الفرس تحت قيادة الصَّحابيِّ القائد “سعد بن أبي وقاص” والَّذي أختاره الخليفة الرَّاشد عمر بن الخطاب لقيادة الجيش العربي المسلم وهزم سعد بن أبي وقَّاص الجيش السَّاسانيَّ الكبير الَّذي كان بقيادة الجنرالِ السَّاسانيِّ رستم فروخزاد في “معركة القادسيَّة” عام 637م ، وأصبحت مدينة المدائن محاصرة وسقطت بعد الحصار، بعد هذه الهزيمة الكبيرة للفرس في معركة القادسيَّة هَربَ الملك يزدجر الثَّالث شرقاً مِنْ المدائن،  وحاول عدد مِنْ حكام بلاد فارس السَّاسانيِّين دَمْج قواتهم لإيقاف الفتوحات الإسلامية، ولكنَّ هذه الجهود كانت بلا فائدة بسبب انعدام السُّلطة المركزيَّة القويَّة، وتمت هزيمة هؤلاء الحكام في معركةِ ” نهاوند” ، وبعد ذلك قام العرب المسلمون بفتح بلاد فارس كلِّها، وبفتح بلاد فارس على يد المسلمين وبمقتل الملك يزدجر الثَّالث عام 651 م كانت نهاية الامبراطوريَّة السَّاسانيَّة .

وقبل الفتوحات الإسلامية أعتنق معظم السِّريان الآشوريِّين في بلاد الرَّافدين الدِّيانة المسيحيَّة منذ قرنها الأوَّل على يد “مار ماري ومار اداي” وبشكل جماعي كردِّ فعل على واقع الاضطهاد والظُّلم والتَّشتُّت الَّذي عانوه من الفرس والرُّوم والفرثيِّين. وهذا الاعتناق أمَّن لهم قيادة واحدة وإنْ كانت باسم الدِّين، يخضع لها الجميع دينياً ويطيعونها مدنياً فكانت هذه القيادة بمثابة إدارة دينيَّة اجتماعيَّة متكاملة، وتَخوَّف الرُّومان من الإدارة الموحَّدة للسِّريان “سُكَّان بلاد ما بين النَّهرين” فسعوا إلى تقسيمهم دينياً مستغلين خلافات بعض رجال الدِّين الفكريَّة، ففرَّقوهم إلى مذاهب متناحرة ومتآمرة بعضها ضدَّ بعض، فطرد الامبراطور الرُّوماني زينون أتباع نسطور ولجؤُوا من الرَّها ونصيبين إلى فارس، حيث رحبَّت بهم واعتبرتهم عوناً لها ضمن السُّلطة الرُّومانيَّة.   واتَّصل السِّريان بالنَّبيِّ محمَّد ” صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ” وحصلوا منه على عهود بالأمان لقاء التَّعاون على طرد الرُّوم والفرس من بلادهم بواسطة بطريركهم “إيشو عيهيب الثَّاني الجذلاني “، كما تعاون السِّريان أيضاً فيما بعد مع الخلفاء الرَّاشدين كعمر بن الخطاب وغيره لقاء إعطائهم حقِّ ممارسة الشَّعائر الدِّينية والاحتفالات وترميم الكنائس والأديرة واعفائها من الجزية والتَّعهد بحماية ديارهم.  وشجَّع هذا الاستقرار لهم بأنْ جعلوا من الشَّرق منارةً وضَّاءة كانت أساساً للمدنيَّة الغربيَّة الحاليَّة، وازدهر الشَّرق مدَّة ثلاثة قرون متواصلة من 650 الى 950 م بعلومهم وترجماتهم المختلفة من السِّريانيَّة واليونانيَّة والفارسيَّة.

وقد أشار المستشرق لوك في كتابه “الموصل وأقلياتها” إلى هذا التَّفاهم بقوله: “إنَّ النَّبيَّ العربيَّ قطع عهداً للشعوب السِّريانيَّة بالمحافظة على حرمة جميع المراكز الدِّينيَّة وإعفائها من الجزية إذا اجتاح تلك البلاد”.

 

لمحة عن الكاتب:

 

ياسر ياسين العمر

سورية – مدينة دير الزور – تولد عام 1960

حاصل على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق عام 1978

الانتساب الى نقابة المحامين فرع دير الزور عام 1989

شغل منصب امين سر نقابة المحامين بديرالزور وترك هذا المنصب 2012

اتبع دورات عديدة في التحكيم

وحصل على شهادات تثبت اتباعه لتلك الدورات من غرفة التحكيم العربية وغرفة باريس .

-محكم لدى المركز الدولي للتوفيق والتحكيم والخبرة بسورية

-محاضرا سابقا في برنامج الأمم المتحدة للمنح الصغيرة

-متبع دوره في إدارة المجتمعات الاهلية

– عضو في اتحاد المؤرخين العالمي

– عضو في هيئة القانونيين السوريين

شاهد أيضاً

دير الزور.. لمعة في تاريخها ((مقال عن مدينة دير الزور قبل نحو 114 سنة ))

بقلم الأديب عبد الكريم نوري أستاذ اللغة الفرنسية سابقاً بلواء دير الزور.. تحرير و تدقيق …

تعليق واحد

  1. تخلو المقالة من القوانيين المستخدمة والمنظمة للمجتمع الساساني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *