ذكريات طفل في حي الحويقة دير الزور

 

الحويقة روضة من رياض الجمال في دير الزور يحضنها نهر الفرات الثر بفرعيه حانيا عليها حنو الأم الرؤوم  الشفوق على بكرها الصغير تأخذه بحضنها الدافىء الرحيم المفعم بالحب والحنان هذه هي الحويقة الجميلة الأنيقة ، ضرب عليها الحسن قبابه وخيامه ، واختارها الجمال لتكون متبوأه ومقامه، واصطفاها البهاء ليتخذ منها مستقره ومنزله.  يكاد الحسن أن يغار من رونق حسنها ، وتحمر البهجة خجلا من بهجة حدائقها ونضارة بساتينها .

عبق العطور الناعشة من أريج ورودها وأزهارها ، والنشر الفواح في الآفاق من عبق  فلها وياسمينها . هذه هي الحويقة الجميلة الأنيقة ، عروس رفلت بأثواب الربيع المونق ، فتجلت فأبهرت  بجلوتها نواظر المجتلين وأسرتهم بباهر زينتها وبهاء طلعتها . علقتها طفلا صغيرا يدرج في ملاعبها ويرتاض في حدائقها وبساتينها فيأكل من طيب جناها وناضج ثمارها . ويتمرغ على شطآن نهرها مرحا وجذلا، ويغمس في حمارة القيظ اللاهب جسمه الغض في رقراق سلسبيله ، ويمتع ناظريه برؤية السابحين العابرين الى الحويجة النهرية بالقرب من الجسر المعلق كان بعضهم يعبر النهر وهو يدفع أمامه بطيخة تطفو على السطح حينا وتغطس حينا آخر  فمنهم من تصل معه الى الحويجة بسلام فتند من فمه صرخات الفرح والسرور ، لانه سيستمع واصحابه بروعة حلاوتها ولذة ( جمارتها) ومنهم يجرفها النهر الدافق فلا يقدر على اللحاق بها فيتركها وهو في غاية اللهفة والحسرة وآخرون يعبرون وقد حملوا ثيابهم بيد ويصارعون الماء باليد الأخرى ، كانت الحويجة البديعة في وسط النهر ملاذ الناس في الصيف اللاهب يتمرغون برمالها ويتفيؤون ظلالها كما كان الجسر المعلق موئل المغامرين يقفزون من اعلاه بكل جرأة غير هيابين ولا خائفين هذه هي الحويقة وهذا نهرها الفياض الثر المعطاء

لي في مغانيها ألف ذكرى وذكرى لكل ذكرى نكهة خاصة ومذاق فريد. ذكريات محفورة في جدران ذاكرتي متجذرة في أعماق وجداني وجدتني وانا أستدعي هذه الذكريات أدلف الى دار جدي لأمي – رحمه الله – في الحويقة وكانت دارا واسعة كبيرة لها بابان يطلان على شارعين ينتهي أحدهما إلى أرض فسيحة نصبت فيها  ( تنانير )يخبز فيها نساء الحي القريبات اللواتي كن يتخذن من دار جدي معبرا للوصول إلى تلك التنانير وكأني بهن أمام ناظري الآن يتهادين  بمشيتهن وهن يحملن على رؤوسهن (مخامر الخبز ) المقمر كهيئة البدر التمام ،  وتتمثل امامي وانا اخط هذه السطور صورة جدتي – رحمها الله -وقد تحلق أحفادها حولها تدغدغ قلوبهم فرحة غامرة يراقبونها وهي تخبز

 ( السّيالي ) الذي كانت تتحفنا به بين الحين والآخر والذي كنا ننتظره بلهفة وشوق بالغ ثم تعرض لي صورة جديرحمه اللهواقفاً على السلم الخشبي وهو يحمل مقصا كبيرا يهذب به ويقلم عريشة العنب المتدلية على فناء الدار كأن عناقيدها مصابيح فضية صغيرة نضد بعضها فوق بعض اوتراه يحملق في شجرات النخل الباسقة يتفحص رطبها الجني الطيب الحلو كل يوم مخافة ان يكون أحد من الأهل والجيران قد سطا على بعضه كان لا يحب ان يأخذ أحد منها رطبة واحدة دون علمه وارادته ولم يكن احد من اهله يجرؤ على تسلقها او هزها لتسقط ثمرها غير طفل مشاغب مشاكس ، العبث و( الشقاوة ) ملء إهابه ، كان يتحين فرصة غياب جده عن البيت فيأتي من حي الحميدية ليتسلق تلك النخلات فيهزها هزا ًتتساقط له كل ما نضج من رطبها فيتداعى الاهل والجيران لالتقاط ما يقدرون على التقاطه والهرب من مسرح الجريمة قبل ان يأتي الجد فيحدث لهم ما لا تحمد عقباه كان هذا الطفل اول الهاربين واول المتهمين كان الجد يبرق ويرعد ويتهدد ويتوعد فيتغيب اياما حتى تنحسر موجة غضب جده اتعرفون من هذا الطفل

( العابث المشاغب ) ؟ اظنكم ستعرفونه ، إنه كاتب هذه السطور وسارد هذه الوقائع التي طواها الزمان فاصبحت فعلا ماضيا ولكنها لم تزل في ذاكرتي على طول العهد بها حاضرا شاخصا استدعيه دون مشقة او عناء كنت استرضي جدي الغاضب – رحمه الله – واستل من قلبه غيظه وحنقه بحيلة ماكرة كنت اجمع – من بيتنا – قشور البطيخ وكسر الخبز اليابس في كيس ثم انطلق الى دار جدي فأدلف على عجل دون استئذان او سلام متوجها الى مربض الخاروف القابع في زاوية الدار فانثر امامه القشور وكسر الخبز على مرأى من جدي وجدتي  اللذين تملأ ضحكتهما الدار  من هذه الحيلة المكشوفة المعروفة فاضحك لضحكهما وأسر لسرورهما وتنجلي عني غمامة الخوف من تقريع جدي وتأنيبه وما يمضي غير قليل حتى يدب الخلاف بيننا فيعلو صراخه – رحمه الله – فيزجرني وينهرني فيأخذني من ذلك غضب شديد فأركض دون وعي مني الى مربض الخاروف المسكين الذي لاحول له ولا قوة فاجمع من امامه بقايا القشور وكسر الخبز التي لم يهنأ بها وانطلق وسط حشد من الاهل والجيران الذين هيجهم من بيوتهم صراخ جدي المرتفع الى الفسحة الكبيرة القريبة وانثر مامعي وامرغه بالتراب حتى لايستفيدون منه بعد هربي .كنت أسمع من ورائي قهقات الجيران والاهل من هذا المشهد 

( الكوميدي ) الساخر رحم الله جدي وجدتي فقد تحملا عبثي كثيرا   ويكبر هذا الطفل الصغير ويصبح شابا هادئا عاقلا وتصبح تلك الذكريات قصصا يتندر بها في مجالس الاهل والاحباب .إهداء لأخوالي ( آل الضامن والمضحي ) في الحويقة

بقلم: (قاسم ميثاق)

شاهد أيضاً

(ألوان بلا عنوان).. حمام السوق بقلم سمير الحاج

قبل العيد بيوم أو يومين في فترة ما قبل السبعينات من القرن الماضي يتجهز الناس …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *