الأَحْدَاثُ المُهِمَّةُ الَّتي وَقَعَتْ فِي الحَسَكَةِ

البَنْدُ الأَوَّلُ – عِصْيَانُ الجَزِيرَةِ وَأَحْدَاثُ عَامُودَا:

كان لهذا العصيان أبعاده الخارجيَّة، فعندما قام المفوض السَّاميُّ في سوريَّة دو مارتيل ببذل الجهود لإقرار المعاهدة والَّتي تضمَّنت الفترة الانتقاليَّة ونقل صلاحيَّات المفوضيَّة إلى الحكومة السُّوريَّة وتقليص الجيش الفرنسيِّ مقابل تشكيل جيشٍ سوريٍّ وطنيٍّ ، ونظراً للانقسامات بين السَّاسة ( اليسار الفرنسيِّ ومجموعات الحزب الاستعماريِّ )، فقد قاد الجنرال هنتزنغر عملية عرقلة هذه الجهود وحدثت ازدواجيَّة في السُّلطة بينهما وكانت أوامر مارتيل لا تنفذ وقام هنتزنغر باللُّجوء إلى أسلوب إثارة الاضطرابات الاثنيَّة والمناطقيَّة الانفصاليَّة في المحافظات ( اللَّاذقية، جبل الدُّروز، الجزيرة ) ضد الحكومة الوطنيَّة والَّتي قام مارتيل بالتَّعجيل بنقل السُّلطات الدَّاخلية إليها، أمَّا هنتزنغر فقد اعتمد على ضباط الاستخبارات لإظهار شكل حركة أقليَّات مثارة ضد المعاهدة وكأنَّها عفويَّة ومن ذلك قيام الاستخبارات باستغلال الانقسامات التَّقليديَّة بين المكونات العشائريَّة والقوميَّة والدِّينيَّة والمذهبيَّة في منطقة الجزيرة السُّوريَّة والسَّعي لإحداث حالة العصيان ضد الحكومة الوطنيَّة والمفوضيَّة الفرنسيَّة، وفي هذه الأثناء كانت تنافس في قبيلة طي على الزَّعامة بين الشَّيخ محمَّد عبد الرَّحمن والشَّيخ حسن السُّليمان  وفي ( حزيران 1937م ) بدأت الاعتراضات على أعمال الحكومة عندما  تبنَّى المحافظ بهجت الشِّهابي الشَّيخ حسن السُّليمان رئيسا لعشيرة طيء، وعقد مجموعةٌ من الزُّعماء مؤتمراً في قرية طوبز بقيادة حاجو آغا  رئيس عشائر الهويركيَّة تحت شعار مبايعة الشَّيخ محمَّد عبد الرَّحمن، وخرج المؤتمرون ببيان هدَّدوا فيه المحافظ وقائمقام القامشلي ظافر الرِّفاعي وقائد الدَّرك عبد الغني القضماني بتعيِّين الشَّيخ محمَّد عبد الرَّحمن شيخاً لعشيرة طيء وحدَّدوا لهم أيَّاماً لتنفيذ ذلك، وكان ردُّ المحافظ على ذلك بإقالة بحدي قربو من رئاسة بلدية الحسكة وميشيل دوم من رئاسة بلدية القامشلي مع إصدار مذكرة توقيف بحق بحدي الَّذي كان قد هدَّد المحافظ، استغلَّت مجموعة مرتبطة بالاستخبارات الفرنسيَّة يقودها إلياس مرشو والَّذي ينتمي إلى عائلة مرشو في حيِّ المشكاوية في ماردين والَّتي قدمت إلى الحسكة نتيجة اعتناقها المذهب الأرمنيِّ الكاثوليكيِّ بعدما كانت سريانيَّة، وشكَّل إلياس مرشو مجموعة لحماية قريو من الاعتقال، وهاجم مخفر الشُّرطة في الحسكة بعد أنْ أغلق السُّوق بقوة السِّلاح وأعلن أنَّه ضد الحكومة، وتطوَّرت الأحداث ممَّا دعا المحافظ إلى الاستعانة بالجيش الفرنسيِّ، والَّذي قام بتحرير بعض الدَّرك الَّذين اختطفوا مع التَّحريض على الاستمرار في التَّمرد، وهوجمت دار الحكومة من قبل مجموعة بقيادة مرشو وقريو ولجأ المحافظ بهجت الشِّهابي إلى دهام الهادي رئيس عشيرة شمر الخرصة، ورئيس فرع الكتلة الوطنيَّة في الجزيرة ومن ثمَّ فرَّ مع معاونيه إلى دمشق، أمَّا بقيَّة المناطق ولاسيَّما القامشلي فقد حدث فيها مثلما حدث بالحسكة وفي رأس العين وعين ديوار والدِّيرونة فطرد المتمردون الموظفين ومدراء النَّواحي الَّذين التجؤُوا إلى العشائر العربيَّة المواليَّة للحكومة ولم يحدث شيئاً في الدِّرباسيَّة وعامودا بسبب خلو المنطقتين من ضباط المخابرات الفرنسيَّة وأعوانهم ولموقف العشائر الكرديَّة ولاسيَّما عشائر الكيكيَّة من معارضة الانفصاليِّين، وحدثت مواجهات أخرى بين أقسام عشيرة طيء المؤيدين للشَّيخ عبد الرَّحمن والمدعومين من حاجو آغا وحلفائه، والمؤيدين للشَّيخ محمَّد السُّليمان المدعومين من الشَّيخ دهام الهادي وحلفائه.كما دبَّ الإنقسام في عشيرة الجبور بين الشَّيخ جميل المسلط رئيس العشيرة المعارض للتَّمرد وشقيقه الشَّيخ عبد العزيز المسلط الَّذي انخرط في التَّمرد، كما انقسمت شمر الزُّور بين رئيسها ميزر عبد المحسن المؤيِّد للمتمردين ورئيسها السَّابق مشعل باشا المؤيِّد للوطنيِّين، وأثر ذلك تدخَّل الجيش الفرنسيِّ لحفظ الأمن وشكَّل لجاناً لإدارة شؤون المناطق الَّتي سيطر عليها المتمردون. وتطوَّرت مطالب المتمردون إلى رفع طلب للمفوضيَّة العليا والحكومة بوضع نظام خاصٍّ للجزيرة بموافقة عصبة الأمم وبقاء الانتداب والجيش الفرنسيِّ في الجزيرة وفي هذا المطلب يكون الجيش قد حقَّق غاياته عندما أثار الفتن في الجزيرة. إلَّا أنَّ ردَّت الفعل من قادة الكتلة الوطنيَّة وبعض ممثلي العشائر العربيَّة والكرديَّة كانت عنيفة إذ شكَّلوا لجنة وطنية منهم في منطقة عامودا وقرَّرت هذه اللُّجنة مقاطعة مدينة الحسكة والقامشلي واتَّهمت سكَّان المنطقتين بخيانة القضية العربيَّة، وأرسلت برقية مضادة تتمسك فيها بالوحدة وتعارض الانفصال. وبذلك فقد اختلطت الأمور في منطقة الجزيرة بين الموالين للبقاء في الحكومة السُّوريَّة والمطالبين بالانفصال، وبين المفوضية السَّاميَّة والعسكر الفرنسيِّين والمخابرات من ورائهم، وامتدَّت شرارة هذا الانقسام إلى كافَّة ريف الجزيرة. وفي ( 15 من يوليو، تمُّوز 1937م ) شكَّلت الحكومة لجنة سوريَّة فرنسيَّة للتَّحقيق في الأوضاع في الحسكة وإيجاد الحلول لها، إلَّا أنَّها لم تفلح، وبعد عدَّة أيَّام توجَّه سعد الله الجابري والَّذي يشغل منصب وزير الدَّاخليَّة إلى الجزيرة لتسوية الأمور لكنَّ المتمردين رفضوا استقباله وأغضب ذلك المفوضيَّة الفرنسيَّة ووجَّه دو مارتيل المفوض السَّامي تحذيراً شديد اللَّهجة للمتمردين بالإقلاع عن مطالبهم بالانفصال. ولم تهدأ الأوضاع، وشكَّل المتمردون لجنة تنفيذيَّة محليَّة مؤلفة من إلياس مرشو وبحدي قريو وحاجو آغا وعبد العزيز المسلط وميزر عبد المحسن وميشيل دوم وتولى طاهر المارديني أحد رجال حاجو آغا سكرتارية اللُّجنة، واعترفوا بقيادة حاجوا آغا لقيادة الحركة وتصدرها. إلَّا أنَّ حاجوا والمعروف عنه بالمتقلب والَّذي له علاقات مع رجالات حيِّ الأكراد وجمعية خوبيُّون في دمشق الموالون للحكومة في دمشق جعله في مظهر المتأرجح بين حكومة دمشق والانفصاليين، فوعد زعامات حيِّ الأكراد وعلى رأسهم على زلفو آغا بعدم الوقوف ضدَّ الحركة الوطنيَّة السُّوريَّة وحكومتها، وكان قد برر وقوفه مع الانفصاليِّين بأنَّه كان تحت وطأة تهديد الفرنسيِّين له بتسليمه إلى تركيَّا إنْ لم يشارك في حركة العصيان. كما أنَّه كان متحالفاً مع آل بدرخان المفصولين من جمعية خوبيُّون في مشروعهم لإنشاء كيان كرديٍّ مسيحيٍّ في الجزيرة يحيي إمارة بوطان. كما كان متحالفاً مع المطران حبِّي، وتصبُّ تلك التَّحالفات الَّتي يقوم بها حاجو آغي في مصلحة البطريرك تبوني في باريس لتحريض الحكومة الفرنسيَّة للحيلولة دون إبرام المعاهدة، والعمل من أجل قيام حكم ذاتيٍّ مسيحيٍّ في الجزيرة.

     

حاجو آغا جالسا والواقفون من اليمين إلى اليسار، أكرم جميل باشا، حمزة بك مكسي، قدري جميل.

وفي هذه الأثناء امتدَّت الأحداث إلى عامودا والَّتي بثَّت الرُّعب بين السِّريان. فقتل فيها العشرات من السِّريان السُّوريِّين على أيدي الأكراد. وسبقها وقوع عدَّة مصادمات ومناوشات بين الطَّرفين. وهناك حادثة وقعت قد تكون أحد الأسباب لوقوع تلك المذبحة، وقد روى تلك الحادثة أنيس مديوايه في كتابه القامشلي (في الثَّلاثينيات طلبت السُّلطات التُّركيَّة من المستشاريَّة الفرنسيَّة في مدينة القامشلي إلقاء القبض على المدعو توفيق الملقب (بتوفو) والموجود في مدينة عامودا وتسليمه إليها باعتبار أنَّ له سوابق إجراميَّة كثيرة في المدن التُّركيَّة وهو مطلوب لديها، فتوجَّه أحد الضُّباط من الحاميَّة الفرنسيَّة آنذاك لإلقاء القبض عليه من القامشلي يرافقه بعض الجنود برفقة السَّيِّد ميشيل دوم رئيس البلدية إلى مدينة عامودا. وأثناء محاولة إلقاء القبض من قبل الضَّابط الفرنسيِّ على المجرم المدعو توفيق الملَّقب توفو هجم توفو على الضَّابط الفرنسيِّ محاولاً قتله فما كان من السَّيِّد ميشيل دوم إلَّا أنْ بادره برصاصة قاتلة …)

وفي رواية أخرى ( إنَّ هناك خلاف بسيط بين رجلين أحدهما كرديٌّ والأخر سريانيٌّ  جرح فيه شقيق سعيد آغا الدَّقوري الزَّعيم الكرديُّ القويُّ في عامودا والوجه البارز للكتلة الوطنيَّة فيها إلى صدامات اثنية بين حييِّ المسيحيِّين والأكراد بسبب هجوم الأكراد الدَّقوريِّيين على بعض المترجمين المتعاونين مع الفرنسيِّين ، وانضمَّت مجموعة كرديَّة صغيرة بقيادة عبدي آغا رئيس عشيرة المرسينيَّة الَّذي تمرَّدت عشيرته عليه، ونواف آغا أحد رؤساء عشيرة الملان المقيمة في غرب عامودا وجنوبها المنقسمة بينه وبين عيسى الآغا عبد الكريم  بدورها إلى عامودا المسيحيَّة، وما إنْ سمع الدَّقوريُّون بذلك حتَّى ازدادوا عنفاً ونهباً واحرقوا متاجر المسيحيِّين على حدِّ وصف جكر خوين.  وبحلول العاشر من آب كانت حارة المسيحيِّين قد أحرقت تماماً وتدعى بحيِّ العسكريَّة، لكنَّ ميليشيا عبدي آغا المرسيني، ونوَّاف آغا الملاني تمكَّنت من انقاذ قسم منهم ونقلتهم بشكلٍّ سريٍّ إلى منازل المرسينيِّين في قريتي حاصد وطوبز خوفاً من انقضاض الفلاحين عليهم)[1].

وكان من نتائج المجزرة إفراغ الجزيرة السَّوريَّة من السِّريان، وبعد أن تيقَّنوا أنَّ حكومة دمشق وقوات الانتداب الفرنسيَّ لا يمكن أنْ يوفروا الحماية لهم، وقد وقع السِّجال بينهم وبين اوستروروغ الَّذي قدم إليها في ( 6 سبتمبر/ أيلول 1937م ) واجتمع بقادة الجزيرة لإنهاء تبعات أحداث عامودا وسألوه المسيحيُّون ” لقد وقعت حوادث عامودا والجنود الفرنسيُّون مرابطون في الجزيرة فماذا سيكون مصير الأقليِّات عندما ينسحب الفرنسيُّون وعندما يتمُّ الاستقلال “، فنزح الآلاف منهم من الجزيرة مع القوات الفرنسيَّة إثر انسحابها من سوريَّا. وعلى الرَّغم من ( إنَّ الفرنسيِّين تحركوا لمواجهة الحدث فقامت بإخلاء عامودا من المسيحيِّين وقامت بقصف الأكراد بشكلٍّ عنيف وتمَّ تأديبهم وسمحت للميلشيات الموالية لها بقيادة عبدي ونوَّاف آغا بالانتقام من الدَّقوريِّين وحلفائهم من العشائر الكرديَّة القاطنة في عامودا واستباحت عامودا الكرديَّة وتحويل ما تبقى منها إلى خراب، وطرد مديري ناحيتي عامودا والدِّرباسيَّة ونتج عن ذلك وقوع  ( 26 قتيلاً وتشريد 600 عائلة كرديَّة ظلت دون مأوى لأكثر من سنة ) بينما فرَّ أهل عامودا إلى المناطق التُّركيَّة الحدوديَّة وكان في مقدمتهم سعيد آغا الدَّقوريُّ) [2].

وما زال الكثير من هؤلاء السِّريان وأحفادهم متواجدين في المدن الفرنسيَّة مثل مرسيليا وليون وباريس إضافة إلى الأماكن الأخرى من العالم.

وجاء في وثيقة القضيَّة السُّوريَّة عن حادثة عامودا، ( الحقيقة عن حوادث الجزيرة. اللُّجنة العامَّة للدِّفاع عن الجزيرة العليا ( 1936-1937م ) ما يلي: ((رأى مسيحيو عامودا “السِّريان” أنَّهم مهددون من جانب الأكراد، مع أنَّهم كانوا قد وقَّعوا مع الوطنيِّين برقيات يعلنون فيها ولاءهم لحكومة دمشق. ووقعت على الأثر عدَّة مناوشات كان من نتائجها أنْ هربت خمسون عائلة مسيحيَّة إلى القامشلي والحسجة، منذ ( 26 يوليو، تمُّوز/ سنة 1937م ) خوفاً من توالي الاعتداءات عليها. وإزاء هذه الوضعيَّة نظَّمت السُّلطة المنتدبة في عامودا، يوم (28 يوليو، تمُّوز) مناورة عسكرية كان القصد منها، على ما يلوح، وضع حدٍّ لحماسة البعض، وتهدئة مخاوف البعض الآخر. وفي اليوم التَّالي نظَّم أكراد عامودا بدورهم مناورة أخرى تقلَّدوا فيها ثياب الجيش الفرنسي، بقصد إرهاب السُّكَّان… وفي ( 8 أغسطس،آب/ 1937م ) عاد بعض الأكراد في القطار، فعقدوا عدَّة اجتماعات في منزل زعيمهم سعيد آغا. وفي صباح اليوم التَّالي هاجموا المسيحيِّين بالرَّصاص في حيِّيهم، بينما كان سكَّان القرى الكرديَّة المحيطة بعامودا يسدُّون الطُّرقات في وجه الهاربين، ويمنعون الانتقال إليها ذهاباً وإياباً، ويوقفون السَّيَّارات فيسلبون ركَّابها.)). وفي ( 10 أغسطس،آب ) هجم الأكراد بقيادة سعيد آغا الكرديِّ زعيم عشائر المرسينيَّة على عامودا وسلبوا ونهبوا المحلات الَّتي يملكها المسيحيُّون. وعندما انتهى الهجوم وُجِد ما بين الخرائب ( 15جثة ). أمَّا المهاجمون فقد تراجعوا عندما تدخلت القوات الفرنسيَّة الَّتي أعادت النِّظام لمنطقة عامودا. وكان الأكراد قد أسروا ثلاثة من المسيحيين منذ بدء الهجوم واحتفظوا بهم كرهائن. ولكنَّهم عادوا فذبحوهم.

ويقول الأستاذ عزيز آحي (حدثت في عامودا في الجزيرة السُّوريَّة عام (1937م ) فتنة طائفيَّة حيث قام قسم كبير من زعماء العشائر الكرديَّة بالاعتداء على السِّريان في البلدة.وقتل أكثر من ثمانين شخصاً وجرح أكثر من ماْئةٍ وخمسين، عدا المفقودين )[3].

وورد عن حادثة عامودا في مجلة الجامعة السِّريانيَّة، والَّتي كان لها مراسل خاص في عامودا هو الأديب حنَّا عبد لكي: وجاء فيها (عدد تموز وآب وأيلول 1955م) ما يلي:  (.. أخذ الفرنسيون يثيرون الفتن والقلاقل بقصد إضعاف موقف سوريَّا في مطالبتها بالاستقلال. ولم يكد يحل عام ( 1937م ) حتَّى توصلوا إلى بلوغ مآربهم بوقوع حادث عامودا الشَّهير الَّذي سقط فيه نحو ماْئة وعشرين قتيلاً وعدد كبير من الجرحى وشبَّ الحريق في البلدة من كلِّ جهاتها.).

أمَّا أنيس حنَّا مديوايه فقال عنها (بلدة عامودا عام ( 1937م ) كان عدد سكَّانها لا يتجاوز سبعمائة عائلة، وأغلب هذه العائلات هي من العشائر الكرديَّة  فكان العرب ومسيحيو المدينة هم الأقليَّة في ذلك الحين، فكانت هذه الأقليَّة تجد نفسها مهدَّدة من جانب الأكثريَّة فوقعت عدَّة مصادمات ومناوشات بين الطَّرفين على أثرها نزحت خمسون عائلة مسيحيَّة إلى مدينة القامشليِّ  والحسكة وقرية حاصدة الكــرديَّة الصَّديقة والمجاورة وذلك بتاريخ ( 26 يوليو، تمُّوز/ سنة 1937م ) بزعامة آل صباغ……وفي ( 8 أغسطس،آب/ 1937م ) صباحاً وعلى إثر تكرار الحوادث بين الطَّرفين جرى اصطدام كبير وقام بعض المهاجمين بالهجوم على أحياء بعض العائلات المسيحيَّة دام ستّاً وثلاثين ساعةً، ولم ينقذهم من الموت إلَّا شجاعة ومساعدة بعض الآغوات الكرديَّة  كما قام المهاجمون بأسر ثلاثة منهم منذ بدء الهجوم واحتفظوا بهم كرهائن وهم السَّادة ’’ ملك صباغ – إيليَّا صباغ – سعيد اسكندر صباغ ’’ ثمَّ ذبحوهم بصورة وحشيَّة وشوهوا أجسادهم.  وآنذاك أسرعت النَّجدة العسكريَّة الفرنسيَّة لإعادة الأمن والاستقرار إلى المدينة. ولكنَّ القوات الجوية الفرنسيَّة كانت قد سبقتهم فألقت القذائف على أحياء المدينة منعاً من استمرار المجازر فأدَّت إلى وقوع واستشهاد عدد كبير من الجانبين وحرق المدينة بأحيائِها …)[4].

وجاء في البرقيَّة الَّتي أرسلها السِّياسيُّ الكرديُّ خالد بكداش عن الحزب الشِّيوعي إلى وزارة الخارجيَّة الإفرنسيَّة بواسطة المفوضيَّة العليا بشأن حوادث الجزيرة:” الرجاء إبلاع ما يلي لحضرة وزير الشُّؤون الخارجيَّة في باريس: إن بعض الموظفين الإفرنسيِّين ذوي الميول الفاشستيَّة عملاء أحزاب اليمين الأقصى وأعداء الجبهة الشَّعبيَّة أثاروا في الجزيرة عصياناً مسلحاً ذا نزعة فاشستيَّة معادية لفرنسا وهذا العصيان موجَّه ضد المعاهدة والحكومتين الإفرنسيَّة والسُّوريَّة تحت ستار طلب الاستقلال الدَّاخليِّ والانتداب الفرنسيِّ. إنَّ العصاة بحماية وقيادة هؤلاء الموظفين أعداء فرنسا طردوا موظفي الحكومة السُّوريَّة، ونزعوا سلاح الدَّرك وشكَّلوا في القامشلي والحسجة ورأس العين وغيرها لجاناً مسلَّحة تحت اسم ’’ لجنة إدارة شؤون الحسجة ’’ مثلاً وهم لايزالون سادة الموقف ويتابعون دون قصاص أعمالهم، بينما الجيش الإفرنسي قد اتَّخذ منذ شهر على عاتقه صيانة الأمن. لو اتَّخذت المفوضيَّة الإفرنسيَّة تدابير فعَّالة لأمكن قمع العصيان منذ الابتداء، لأنَّ أكثرية سُكَّان الجزيرة موالون للمعاهدة وللحكومة السُّوريَّة ولفرنسا الدِّيمقراطيَّة. نحتج بشدة على موقف الموظفين الفاشيست ونطلب قمع العصيان ومعاقبة العصاة ومحاكمة الموظفين الفرنسيِّين المسؤولين في الجزيرة، وإرسال لجنة تحقيق برلمانيَّة لسوريا، وتطهير بلادنا من أعداء فرنسا الدِّيمقراطيَّة والمعاهدة. ســـــوريَّا تريد أن تحيا بإخاء وسلام مع فرنسا الدِّيمقراطيَّة “.

عن الحزب الشُّيوعيِّ / السِّكرتير العام / خالد بكداش [5].

والأكراد المتطرفون لم يكتفوا بمذبحة عامودا، وإنَّما فكَّروا إلى أبعد من ذلك وهو القضاء على سريان الجزيرة السُّوريَّة. فالتقى زعماء عشائرهم مع زعماء العشائر العربيَّة في تلك المنطقة لإقناعهم بالمشاركة في إبادة السِّريَّان إلَّا أنَّهم رفضوا وخاصَّة عشيرة طيء، بل قام زعماء طيء بتحذير السِّريان من احتمال تعرضهم للإبادة مثلما جرى لهم في تركيَّا. وأعاد الأكراد الكَرَّة مرَّة أخرى وأثمرت اجتماعاتهم، ففي عام (1941م) قامت العشائر الكرديَّة بمحاولة جديدة لإبادة السِّريان ولكنَّ هذه المرَّة في مدينة المالكيَّة.

وحسب ما جاء في كتاب (آزخ أحداث ورجال) قام القس جبرائيل جمعة الآزخي السِّريانيُّ بتنظيم السِّريان وحثهم على حمل السِّلاح للدِّفاع عن أنفسهم. كما قام البطريرك مار أفرام برصوم بالاتِّصال مع المسؤولين الفرنسيِّين والضَّغط عليهم وإحراجهم لإرسال قوَّات إلى المالكيَّة. وتمَّ إفشال مخططات الأكراد. أمَّا بقيَّة الأكراد المعتدلين والغير متطرفين فقد كان لهم الدُّور الكبير في إنقاذ حياة الكثير من السِّريان في عامودا ومن هؤلاء عبدي آغا ونوَّاف آغا وأحمد آغا. كما جاء في ( العدد 216 لعام 1937م ) من صحيفة أفتون بلادت السُّويديَّة الحديث عن تلك المجازر.

واستغلَّ الانفصاليُّون حادثة عامودا ليزيدوا من ضغوطهم لتحقيق مطالبهم في الحكم الذَّاتي ذي المضمون الانفصالي واتَّهموا الحكومة السُّوريَّة بتسليح الأكراد للانقضاض على المسيحيِّين وكان الأرمن قد وقفوا موقف المحايد من تلك الأحداث.

وأمَّا الأشوريُّون فقد رفضوا الخوض في تلك الأحداث، كما أنَّ اوستروروغ مندوب المفوض الفرنسيِّ فقد رفض الاتِّهامات الموجَّه للحكومة السُّوريَّة بتسليح الأكراد وحذَّر الانفصاليِّين بالإقلاع عن مشروعهم ومن لا يرغب منهم في العيش تحت الرَّاية الوطنيَّة فليذهب إلى الأراضي التُّركيَّة الَّتي لجأ منها ( وفي كلامه هذا تأكيد على قدوم عناصر كبيرة غير سوريَّة إلى الأراضي السُّوريَّة ) .

ووقع حراك سياسي في فرنسا حول المعاهدة وبنودها وكان نتيجة هذا الحراك أنْ دعت وزارة الخارجيَّة الفرنسيَّة قادة الأقليَّات للاستماع إلى آرائهم بشأن تأثير إبرام المعاهدة عليها وتوجَّه تبوني مع المطران حبِّي إلى باريس لعرض قضية الجزيرة، وتحرَّك مردم بك لتحقيق تسوية ترضي الأطراف الفرنسيَّة (المؤيِّد والمعارض للمعاهدة) وتمَّت المراسلات بين مردم بك ودوتيسان وكان من أبرز ما تضمَّنته بشأن الأقليَّات تطبيق نظام المحافظات. وعاد تبوني من باريس إلى بيروت منتصراً واستقبله في بيروت عدد من قادة التَّمرد المسيحيِّين وحاجو آغا وميزر عبد المحسن ، وامتنع رؤساء عشائر المليَّة الكرديَّة والمحلميَّة التي كان لهما نائبان في مجلس النُّواب السُّوريِّ من المشاركة في استقباله وأدَّى إلى انسحاب عشائر هؤلاء من حركة العصيان وانضمامهم إلى حكومة الكتلة الوطنيَّة في دمشق، وبعد عودة تبوني إلى الجزيرة وقعت حادثة خطف المحافظ بالوكالة توفيق شامية من قبل إلياس مرشو ومجموعته وتمَّ نقله بين القرى الكرديَّة ومن ثمَّ نقل إلى منزل بحدي قريو والَّذي لعب دور مزدوج يتمثَّل بالسَّير مع الخاطفين والانفصاليِّين في الظَّاهر والتَّنسيق مع الوطنيِّين من خلال القيادة الرُّوحيَّة السِّريانيَّة الأرثوذكسيَّة لحماية المحافظ وإحباط اللُّعبة الانفصاليَّة، وكلَّف المندوب الفرنسيِّ اوستروروغ القائد بونو رئيس الشُّعبة السِّياسيَّة لفكِّ أسر المحافظ بالطَّريقة العسكريَّة بعد أنْ وجَّهت له الحكومة السُّوريَّة رسالةً شديدة اللَّهجة وإنَّ صبرها نفد، ولم يعد في وسعها السُّكوت بعد الآن على استمرار هذه الفوضى، وتمكَّن اوستروروغ من العثور على المحافظ  في دار بحدي قريو وتحريره، وطلبت الحكومة من مندوب المفوض بالقبض على أعضاء اللُّجنة الَّتي دبَّرت مؤامرة خطف المحافظ وسوقهم مع بقيَّة الأفراد المشتركين بحادثة خطف المحافظ ليتمَّ محاكمتهم مع فرض غرامه على الحسكة لاشتراك سكَّانها بحركة التَّمرد مع مصادرة السِّلاح الموجود لدى المتمردين وتبديل القطع العسكريَّة لتهاونها في قمع العصيان، واستجاب اوستروروغ  لبند الاعتقال فقط واعتقل قسم من الأشخاص ورحَّلهم إلى دمشق، أمَّا حاجو آغا فقد واصل التَّحدي والمطالبة بنظام مالي وإداري وبقاء الجيش الفرنسيِّ وبحاكم فرنسيٍّ في الجزيرة وكان له قولٌ ’’ إنَّنا نتشبَّث بمطالبنا أو نموت ’’ووصفته إحدى الصُّحف آنذاك ’’ كرديٌّ لاجئٌ يتمرجل على الحكومة’’ وأمَّا المطران حبِّي فقد سهَّلت له القوَّات الفرنسيَّة عملية هروبه إلى بيروت. وانتهى هذا العصيان بشهر ( مارس، آذار 1938م ) بقبض الحكومة على رؤوس حركة التَّمرد وسوقهم إلى المحكمة وفق ما بين رئيس مجلس الوزراء جميل مردم بك وعُيِّن محافظ جديد للجزيرة هو حيدر مردم بك المتزوج من مسيحيَّة وابن عمٍّ لرئيس مجلس الوزراء ودعم من المفوض السَّاميِّ ورافقه في رحلته من دمشق إلى الجزيرة لاستلام منصبه الكونت اوستروروغ مندوب المفوض السَّاميِّ الفرنسيِّ، ووعد رئيس مجلس الوزراء بتوفير الحلول للمشكلات الَّتي تشكو منها منطقة الجزيرة، كما سمحت الحكومة بعودة المطران حبِّي من بيروت إلى الحسكة، وما كادت تنقضي إلَّا أسابيع قليلة على عمل المحافظ الجديد حتَّى تجدَّدت المشكلة عندما طلب اوستروروغ من قادة التَّمرد بالعودة إلى موطنهم في تركيا وقامت مجموعات وعددهم بالمئات من الانفصاليين في ( 2 نيسان 1938م )  بمنع المحافظ حيدر مردم بك من دخول مدينة الحسكة ورجموه بالحجارة وحطموا سيَّارته بذريعة عدم جلب مواقيف حادثة اختطاف المحافظ السَّابق شاميَّة، ووقعت اشتباكات وقتل عدد من رجال الدَّرك، وبقيت المحافظة خالية من أي حضور لأجهزة الحكم الوطني حتَّى تاريخ ( 3 آذار 1939م) تاريخ زيارة المفوض السَّاميِّ الفرنسيِّ الجديد غابرييل بيو  للجزيرة وانتقلت السُّلطة فعلياً إلى معاون مندوب المفوض الكولونيل مارشال .

شنَّ الانفصاليون حملة على نواب الجزيرة ونشروا الاشاعات عن مواقفهم وازداد الوضع توترا ووصف نائب الجزيرة قدُّور الحاج علي بك بالحالة الَّتي تنذر بشر الخطر وطالب بتشكيل لجنة نيابية للتَّحقيق وتقديم المقترحات لاحتواء حالة التَّوتر بعدما أحكم المتمردون الحصار على موظَّفي السَّراي ورحَّلوا الدِّيريِّين كافَّة من الجزيرة ومنعوا المزارعين منهم من القيام بأعماله، وقال الباحث صالح هواش المسلط ابن الجزيرة السُّوريَّة (في لحظة توتير العصيان كان يكفي أنْ يتمَّ التَّعرف إلى أحد الدِّيريِّين العابرين بالحسكة في طريقهم إلى دير الزُّور كي يتعرض لـ ’’ الضَّرب المبرَّح ’’ وانذاره بعدم العودة انتقاماً منهم لمحاولتهم فكِّ الحصار عن الموظَّفين المحاصرين وتزويدهم باحتياجاتهم )[6].

كما جاء في كلمة للنَّائب محمَّد نوري الفتيِّح أحد أبناء منطقة الجزيرة السُّوريَّة ابن ديرالزُّور أمام البرلمان في (27نيسان 1938م )(….أيَّها الإخوان : عندما عقدت المعاهدة في ( 9 أيلول 1936م ) كانت منطقة الجزيرة من جملة الأراضي السُّوريَّة وليس لها أيَّة ميِّزة أو رجحان على المناطق الأخرى ولا حقَّ لها بمخالفة القوانين أو الشَّرائع المرعبة وقد ذهبت إلى تلك الإرجاء بعد عقد المعاهدة واجتمعت برجالاتها في ( 18و19و20 أيلول 1936م) في الحسكة والقامشلي وعامودا والدِّرباسيَّة ورأس العين فوجدتهم مسرورين ومرتاحين للمعاهدة ومستبشرين بها خيراً، حتَّى أنَّهم تبرَّعوا في تلك الأيَّام بمبالغ كبيرة إعانة لفلسطين، فما هذا الانقلاب الَّذي وقع هناك ؟ ولم هذه الحوادث الَّتي تُمثَّل على مسرحها بعد أنْ كانت الحالة هادئة والأمن مستتباً من أقصى الجزيرة إلى أقصاها حتَّى أواخر ( حزيران 1937م ) وقع حادث الحسكة الأوَّل الَّذي قتل فيه أربعة من رجال الدَّرك السُّوريِّ، وأصيب ثلاثة من رجال الشُّرطة بجراح مختلفة في ( السَّادس من شهر تمُّوز 1937م ) فماذا فعلت الحكومة؟ هل قامت بإجراء تحقيق وقبضت على الفاعلين الَّذين قَتَلوا رجال الدَّرك الموكل إليهم أمر المحافظة على النِّظام والأمن؟ إنَّها لم تقم بأي عمل فردي بل تركت الأمر حتَّى نهاية شهر تمُّوز إذ أرسلت لجنة مختلطة كان من أعضائها أحد النُّوَّاب الكرام وهو الأستاذ أدمون الرَّباط، وفي اليوم التَّالي لوصول اللُّجنة إلى الحسكة وقعت حادثة عامودا وذلك في أوائل ( شهر آب 1937م ) أي بعد الحادث الأوَّل بشهر، فلو اتَّخذت الحكومة التَّدابير الكافية حال وقوع الحادث الأوَّل، وقبضت على الفاعلين وزجَّتهم في السِّجن وعاملتهم بما يجب أن يعاملوا به، ولما وقع حادث عامودا، أمَّا اللُّجنة فقد درست الحالة ووضعت تقريرها، ولكنَّنا لم نعلم ماذا كان مصير ذاك التَّقرير؟ ولم يعرف هذا المجلس شيئاً عنه، وكلُّ ما فعلته الحكومة أنَّها استدعت المحافظ الأمير بهجت الشِّهابيَّ بداعي أنَّه قصّر في القيام بمهمته، وأنا أقول إنَّ المحافظ لم يقصر بتاتا ولم يفعل شيئاً مخالفا للقانون والنِّظام، ولو افترضنا أنَّه اقترف كما يقال مخالفةً ما فهل يجوز أنْ يتمرَّدَ المتمرِّدون، وأنْ يقاوموا رجال الأمن ويهاجموا دار الحكومة بالسِّلاح كما رأينا ولا يعاقب أحد منهم. ثمَّ لماَّ حدث حادث عامودا، ذهبتَ إلى هناك فصائلٌ من الجيش والشُّرطة والدَّرك، وقبض على جماعات وحكم عليهم بأحكام مختلفة بين نفي وسجن وإعدام، فلماذا يعاقب المتمرُّدون في حادث عامودا ولا يعاقب الَّذين قاموا بالحوادث الأخرى وتسبَّبوا بقتل رجال الدَّرك؟ أليسوا جميعاً سوريين؟  أليست المنطقة كلُّها سوريةً؟ لا أريد أن أقولَ أكثر من ذلك لأنَّني أعلم شيئاً من نتائج التَّحقيق في الحادثتين، ولكني أقول إنَّ الحكومة لو قامت من نفسها بالتَّحقيق في حادثة الحسكة الأولى وعاملت المتمرِّدين بما يجب أنْ يعاملوا به، لاعتبر الآخرون، ولماَّ توالت الحوادث، أمَّا وأنَّها لم تفعل  فقد حدث حادث عامودا وكان من نتائجه ما كان، وجلَّ ما فعلته الحكومة آنذاك هو أنَّها قلت آنفا سحبت المحافظ بداعي التَّقصير وهو لم يقصِّر أبداً، واستبدلت قائد الدَّرك السَّيِّد عبد الغني القضماني بالقائد إبراهيم قصَّاب حسن، وقبل مباشرته بالعمل استبدلته بالقائد هرانت، وعهدت إلى السَّيِّد توفيق شاميَّة محافظ لواء الفرات واحد الوزراء السَّابقين بوكالة الجزيرة بدلاً من الأمير بهجت الشِّهابيِّ، واكتفت الحكومة بهذه التَّدابير وسكتت عمَّن قُتل من أبنائها في سبيل الواجب، كما أنَّها لم تنشر شيئاً من التَّقرير الَّذي تقدَّمت به اللُّجنة الرَّسميَّة المؤلفة من فرنسيِّين وسوريِّين، وكان جملة أعضائها نائب حلب الأخ ادمون الرَّباط. ظننا آنذاك إنَّ كلَّ شيء قد انتهى وإنَّ الوزير السُّوريَّ السَّابق القائم بوكالة محافظة الجزيرة مع قائد الدَّرك السَّيِّد هرانت يمكنهما إرجاع المياه إلى مجاريها وإقرار الحالة هناك، وعلى ذلك فتكون القضية انتهت بتبديل محافظ بمحافظ، وقائد بقائد، مع أنَّ الحقيقة ليست كذلك إذلم ينقضِ على هذا التَّدبير الموقَّت سوى بضعة أشهر حتَّى قامت تلك الفئة المتمردة واختطفت المحافظ السَّيِّد توفيق شاميَّة الَّذي بقي سجيناً لديها بضعة أيَّام، تأمَّلوا في هذا الحادث، إنَّ المحافظ يُخطف مع خادمته وطاهيته وسائق سيَّارته في مكان يبعد 16 كيلومتراً عن الحسكة مركز المحافظة، ثمَّ يُحمل الجميعُ في سيَّارةٍ أخرى أعدَّت خصيصاً لذلك، وتمرُّ بهم السِّيَّارة على جسر الحسكة بطريقها إلى دار بحدي قريو، ثمَّ يُحملون ليلاً ويُطاف بهم على بعض القرى المجاورة حيث يقضون يومين كاملين في هذا الطَّواف ويعودون بهم بعدئذ إلى دار بحدي قريز في الحسكة. ولقد قامت الحكومة بالاشتراك مع السُّلطة الفرنسيَّة بالتَّحري عن المخطوفين فانتهى التَّحقيق إلى العثور عليهم في دار بحدي قريو، فجاء أحد الضُّبَّاط الفرنسيِّين وهو القومندان بونو وتسلَّم المخطوفين وأركبهم في سيَّارته وعاد بهم إلى دير الزُّور، فماذا فعلت الحكومة إزاء هذا الحادث الخطير؟ إنَّها اتَّفقت مع السُّلطة الفرنسيَّة على إبعاد الخاطفين الثَّلاثة إلى تدمر، وكانت مُدَّة وجودهم فيها كأنَّهم في نزهة مع أنَّ في القضية جنايات لا جناية واحدة وهي تتضمن ’’أولاً’’ قطع طريق ’’ثانياً ’’ خطف محافظ يمثِّل الحكومة المنبثقة عن هذا المجلس   ’’ثالثا’’ سجنه مع خادمته وطاهيته وسائق سيَّارته وتشهيره في القرى، أفليس من العار أن يبقى من أسرَ المحافظَ وشهرَّه وسجنه بداره طليقاً حراً لا يُسأل عن شيء، ولا يحاكم لدى القضاء، بل يكتفى بجلب إلياس مقسي مرشو رفيقيه من تدمر إلى سجن دمشق، حيث تؤخذ إفادتهم وإفادة المحافظ السَّيِّد توفيق شاميَّة من قبل المستنطق، ثمَّ يُقال إنَّه سيعفى عنهم.

إخواني في أواخر شهر أيَّار 1912م) وقف نائب قيصري علي غالب بك في المجلس النِّيابيِّ العثمانيِّ يتكلَّم في صدد حادث خطير وشاء بعض زملائه أنْ يحولوا بينهم وبيّن غايته من الكلام، فأجابهم بقوله إنَّه عالم بأنَّ قولي سوف لا يلقى أذناً صاغيةً ولكنَّني أريد أن أتكلَّمَ لتدوَّنَ أقوالي في تقويم الوقائع  أي في الجريدة الرَّسمية للمجلس، وتبقى ذكرى للتَّاريخ وللأجيال المقبلة، ولتسمع الأمَّة العثمانيَّة ما قاله نائبها، ولتعلم مدينة قيصري أنَّ نائبها قام بواجبه، وأنا أيضا أتمثَّل بما قاله نائبها، ولتعلم مدينة قيصري أنَّ نائبها قام بواجبه وأنا أيضا أتمثَّل بما قاله النَّائب العثمانيُّ، فأتكلَّم في قضيَّة الجزيرة لتسجِّل أقوالي في جريدة هذا المجلس، وتسمع الأمَّة السُّوريَّة ما أصرح به من هذا المنبر، ويعلم أبناء الفرات إنَّني أدَّيت واجبي برغم علمي بأنَّني سوف لا أرى نتيجة عملية لكل ما أقول، ولكنَّ هذه المنطقة جزءاً لا يتجزّأ من الوطن، وستظلُّ جزءاً منه مادام في الأمَّة رجال أمثالكم وأمثال أبناء الجزيرة مدافعين عن حرمة الوطن وكرامته وحرَّيته واستقلاله.  أيَّها الإخوان: عندما عزمت الحكومة على استبدال السَّيِّد توفيق شاميَّة بغيره اختارت الشَّابَّ المهذَّب والأديب الإداري السَّيِّد حيدر مردم بك ليكون محافظاً للجزيرة، فسافر إليها بالطَّائرة مع المندوب الكونت استر وروغ واعتقدت الحكومة آنئذ أنَّها اختارت خير كفء لهذه المهمة وزودته بصلاحيات واسعة ليقوم بواجبه الأكمل، وبعد أن باشر عمله عاد إلى دمشق، فاجتمعت إليه  ونصحته بأن لا يعود إلى الجزيرة  لأنَّ الحالة فيها لم تتغير عن ذي قبل وأنَّها لا تدعو للارتياح، ولكنَّي رأيته مندفعاً بحماسة ورغبة أكيدة في خدمة تلك المنطقة، وإقامة البرهان على حسن إدارته وما يؤدِّي إليه حسن الإدارة من نتائج طيِّبة، ثمَّ اجتمعت إلى والده الكريم وأدليت إليه بالنَّصيحة نفسها، وطلبت إلى الأخ السَّيِّد حكمت الحراكي بأنْ يحول دون عودة السَّيِّد مردم بك إلى الجزيرة خشية عليه، لأنَّني كنت على علم تام بأن الحالة لم تتبدل منذ إن وقع الحادث الأوَّل في الحسكة في (6 تموز 1937م ) فالمسألة ليست مسألة استبدال محافظ بسواه بل هي قضيَّة أشخاص مدفوعين بتأثر خفي للعصيان والتَّمرد، وقد ظنَّ السَّيِّد حيدر مردم بك أنَّه بتهذيبه وتربيته وأخلاقه وأسلوبه النَّاعم يتمكَّن من امتلاك القلوب وتسكين الفتنة، ولم يلقَ إلى نصحي له بأنْ لا يحمل معه عائلته وطفله الصَّغير الوحيد إلى الحسكة بالا، فكان أن حدث له في يوم ( 16 نيسان 1938م ) ما حدث ممَّا يعرف الجميع تفاصيله، وبهذه المناسبة أريد أن أقُصَّ على حضراتكم حادثاً وقع إبَّان تسلُّم حيدر مردم بك منصب محافظة الجزيرة هو : إنَّ التَّاجر السَّيِّد شريف بن محيمد المشرف من أشراف دير الزُّور يملك في الجزيرة منذ عهد الحكومة العثمانيَّة قرية تعرف باسم’’حمدي’’وقرية أخرى تملكها في هذا العهد الحاضر، وله في الحسكة دار لسكناه وحانوت لتعاطي تجارته، وقد نزح هذا الرَّجل عن الحسكة مع عائلته إلى دير الزُّور بعد حادث (6 تمُّوز 1937م) وظلَّ مقيماً فيها إلى أن جاء السَّيِّد حيدر مردم بك إلى الحسكة، وأدلى بتصريحات مطمئنةٍ عن الحالة ممَّا دعا هذا التَّاجر للتَّصميم على العودة إلى الحسكة، وقبل أن يغادر الدَّير قابلني وطلب مني توصيةً للمحافظ فنصحته بعدم الذَّهاب، ولكنَّه أصرَّ على رأيه بحجة هدوء الحال، وتصريح المحافظ بذلك، فلم أجد بداً  من إسعاف طلبه فكتبت إلى المحافظ كتاباً بتاريخ(14آذار 1938م ) رجوته فيه أنْ يشمل هذا الرَّجل بعنايته، فهو لا يطلب وظيفة، وإنَّما يرجو أمناً على ماله ونفسه، جئت بعد ذلك إلى دمشق، وفي(17آذار) سافر الرَّجل إلى الحسكة فاسمعوا ماجرى له : عند وصوله إلى الحسكة أوعز أحد أعضاء لجنة المتمردين بحدي قريو إلى رجاله بوجوب أخذ السِّيَّارة بركابها إلى المرآب الخاص بهم، وهناك أبلغوا الرَّجل وجوب عودته فوراً إلى دير الزُّور، بداعي أنَّهم لا يقبلون أن يقيمَ ديري في الحسكة، ذهب الرَّجل إلى المحافظ شاكياً أمره، فلم يرَ من شكواه إلى المحافظ ما يكفَّ الأذى عنه، ثمَّ ذهب إلى ضابط المصالح الخاصَّة فبثه شكواه فقال له الضَّابط :’’إنَّ الحالة الحاضرة لا تسمح ببقائه في الحسكة لأنَّ بقاءه فيها خطر على الأمن’’.أسقط في يد الرَّجل ولم يجد بداً من العودة إلى الدَّير، فقصد إلى المرآب لأخذ حقيبته، فلم يقف لها على إثر، فاضطر لمراجعة المحافظ للحصول عليها، فأشار عليه بلزوم مراجعة حاكم الصُّلح، وعاد إلى دير الزُّور خائب الأمل كاسف البال.وصلت إلي هذه المعلومات في كتاب خاص بينما كان السَّيِّد حيدر مردم بك في دمشق، فتذرَّعت بهذا الكتاب لتأكيد عقيدتي في سوء الحالة في الجزيرة، وأعدت عليه النُّصح بعدم العودة إليها، وقلت له إنَّ الحالة مادامت سيئةً إلى هذا الحدِّ فلماذا أدليت بتصريحاتك المعلومة الَّتي تقول فيها إنَّ الهدوء مخيم على الجزيرة.

إخواني تأمَّلوا فيماحدث للمحافظ الجديد بتاريخ (16نيسان 1937م )  لقد عاد إلى الحسكة تصحبه زوجته وطفله، وقبل وصوله بنحو 500 متر اعترضته جماعة مؤلفة من نحو 400-500 شخص، وحاولوا دون متابعته السَّير نحو الحسكة بوضع حجارة لسدِّ الطَّريق العام، ثمَّ أخذوا يرشقون السِّيَّارة الَّتي تقله وزوجته وطفله بالحجارة، فتحطَّمت السِّيَّارة وأصيب هو وزوجته وطفله بجراح ورضوض، أمَّا المتمردون فكانوا يصيحون بملء أصواتهم ’’أين مرشو؟ ارجع من حيث أتيت ولا تعد إلَّا معه ’’ثمَّ اقتربوا من السِّيَّارة وحاولوا خطف ولده وقرينته  ولكنَّهم لم يفلحوا أمام الجرأة الَّتي أبداها المحافظ من ناحية ولوصول السِّيَّارة الَّتي تقل رجال الدَّرك إلى مكان الحادث، حيث تمكَّنوا من تخليص المحافظ وزوجته وولده والعودة بهم إلى مأمن من النَّاحية الأخرى . يقولون إنَّ الهدوء قد عاد إلى الجزيرة، وأنا أتساءل: أيُّ هدوء يعنون؟ هل أطلقت رصاصه واحدة من أحد الأهالي على الأخرين؟ هل قطع طريق أو سلب مسافرون أو نهبت أموال؟ كلَّا، إنَّه لم يحدث شيء من ذلك وجُلُّ ما في الأمر أنَّ هناك أشخاصاً مدفوعين بأيد خفيَّة للتَّمرد ومقاومة الحكومة السُّوريَّة، ولا هدف لهم غير ذلك. ولكن ماذا يريد هؤلاء المتمردون؟ إذا كانت لهم مطالب فليتقدَّموا بها كما يفعل كلُّ صاحب طلب في سائر بلدان العالم، ولكلِّ شخص الحرِّية بالمطالبة بحقوقه في نطاق القانون. أمَّا أنْ تقوم جماعة مسلَّحة وتحاول فرض إرادتها على الحكومة، فهذا ما لا يقبل به أبداً، وإذا كانت هذه الأقليَّة تريد أن تسمع صوتها ضد الأكثريَّة فلماذا لا يسمع صوت أبناء طرابلس الشَّام، وهم الأكثريَّة السَّاحقة؟ وإذا كان العصاة يقولون أنَّهم يريدون إطلاق سراح إلياس مرشو ورفيقيه فلماذا لا يوفدون وفداً يقابل رئيس الجمهوريَّة السُّوريَّة ويطلب إليه إصدار عفو خاص عنهم؟ أنا لا أقول بجواز هذا العفو، ولكنَّ هذا هو الطَّريق الَّذي يجب أنْ يسلكوه للوصول إلى غايتهم.عندما وقعت المعاهدة، ألم تكن الجزيرة قطعة من سوريَّا؟ ولقد كانت وستبقى إلى الأبد جزءاً لا يتجزّأ من البلاد السُّوريَّة، لأنَّ سكَّانها سوريُّون من مسلمهم إلى مسيحيهم إلى كرديهم، وكلُّهم أبناء وطن واحد لا يرضون عنه بديلاً، أمَّا إذا قامت فئة ضئيلة بتأثير المطران حبِّي أو سواه تتمرد على الحكومة وتحاول أن تفرض إرادتها عليها فهذا ما لا نقبله أبداً. لقد تضمَّنت الخطابات العديدة الَّتي تليت على هذا المنبر من قبل إخواننا النُّواب المسيحيِّين أنَّهم لا يقبلون أنْ يوصموا بوصمة ’’ أقليَّة ’’ لأنَّهم مواطنونا وشركاؤنا وإنَّ الحكومة السُّوريَّة منهم ولهم، لذلك أرجو من المجلس الكريم أن لا يستعجل في الأمر وأن يفكر طويلاً في هذه القضية الدَّقيقة الَّتي هي روح هذا العهد الجديد، فإذا كنَّا نقف أمام حوادث الجزيرة مكتوفي الأيدي كما وقفنا أمام قضية الاسكندرون فإنَّنا لا نعلم ما الَّذي يجيء به الغد.  إخواني وقع يوم (11 نيسان 1938م )حادث بسيط في دير الزُّور بين إخوان تربطهم صلة القرابة والنَّسب وهم من أصحاب المكانة والجاه، فأمر المحافظ السَّيِّد توفيق شاميَّة بسجن الأشراف والأعيان باعتبارهم مسؤولين عن هذا الحادث، كما أمر بسجن الشَّباب الَّذين اشتركوا فيه، فلم يتأثر الدِّيريُّون لماَّ حدث، بل قلنا بلسانهم لوزير الدَّاخلية’’يجب أن تُستعمل الشِّدَّة وتتخذ جميع التَّدابير الَّتي تراها ناجعة لصيانة الأمن والنِّظام’’. وقد قامت الحكومة بواجبها من حيث الإدارة والقضاء، فحادث بسيط عائلي في الفرات أدَّى إلى سجن أشرافها والحكم على شبابها بأحكام مختلفة صوناً لكرامة القانون، أمَّا في الجزيرة فيعتدى على الحكومة، ويقتل دركها وتجرح شرطتها ويعزل محافظها الأوَّل، ويخطف الثَّاني، ويعتدى على الثَّالث، وتنهب دار المحافظ وأموال الحكومة ويحاصر الموظفون. والحكومة تقف مكتوفة اليد لا تقبض على أحد، ولا تعاقب أحداً وهذا الحادث يمرُّ عليه ( 12يوماً ) ولم نسمع للحكومة صوتاً إلَّا ما قرأناه في بلاغها المؤرخ في ( 17 نيسان 1939م ) أنا على يقين تامٍّ من أنَّ الحكومة قامت بما يجب عليها، ففاوضت السُّلطة الفرنسيَّة وأتَّخذت التَّدابير الواجبة، ولكنَّ كلَّ ذلك لن يؤدِّي إلى النَّتيجة المطلوبة، إذ  ليس لديها في الوقت الحاضر جيش تسيّره لقمع الفتنة، ولكن يجب أن تصرَّ على السُّلطة الفرنسيَّة المكلَّفة بحفظ الأمن إن تقمع هذه الفتنة، وتنتهي بها إلى النَّتيجة الحاسمة، وها أنا أكرر أمام هذا المجلس بأنَّني استنكر كلَّ الاستنكار تحكم الأقليَّة المتمردة بكرامتنا، وأرجو من الحكومة أن تحافظ على كرامتها وعلى هيبتها وتضع حداً لهذه المهازل لأنَّ هذه الجزيرة جزيرة ابن عمر، جزيرة العرب وهي ملك لآبائنا وأجدادنا فلن نتنازل عنها لأحد، وسنفديها بأرواحنا وأموالنا والسَّلام عليكم. )

وجاء في كلمة نائب الجزيرة خليل إبراهيم باشا عن حوادث الجزيرة فقال: (أيَّها السَّادة: إنَّ ما قاله الإخوان النُّواب هو كاف وأنَّني أقول إنَّ القائمين بحركة الجزيرة أصبحوا أقليَّة صغيرة بعدما عرفت العشائر إنَّ معارضتهم ليست في سبيل مطالب مشروعة بل إنَّها في سبيل النِّكاية والكيد لهذا العهد الوطني، فانسحبت العشائر من صفوفهم، وإنَّ جميع العشائر الكرديَّة والعربيَّة تؤيِّد العهد الوطني بكل قواها، وأنَّني أطالب الحكومة السُّوريَّة بالاشتراك مع حليفتنا فرنسا المحترمةإيقاف هؤلاء الأشخاص عند حدهم والسَّلام عليكم).

أمَّا كلمة سعيد إسحق النَّائب عن الجزيرة فقال فيها: (أيَّها النُّواب الكرام؟ سبق وأعلنت في جلسة ماضية من فوق هذا المنبر إنَّ فتنة الجزيرة ليست ناشئة عن مطالب أكثريَّة أو أقليَّة، وقلت إنْ إلصاق هذه الفتنة بالأقليات أي بالمسحيِّين دون غيرهم يدل على جهل تام بحقيقة الأمور. إنَّ فتنة الجزيرة فتنة خطيرة لها مركز رئيسي في بيروت وفروع في بعض مدن سوريَّة تتغذى من هذا المركز الَّذي يوافيها بالتَّعليمات ويملي عليها إرادته، أمَّا الهدف الَّذي يرمي مدبرو الفتنة إليه فهو استمرار القلاقل والاضطرابات في الجزيرة، بعد الحوادث الماضية وقبل الحادث الأخير اتَّفقت الحكومة الموقرة مع السُّلطة الفرنسيَّة على انتداب الدُّكتور حيدر مردم بك لمحافظة الجزيرة، فذهب إليها يرافقه مندوب المفوض السَّامي الَّذي خطب في الحسكة والقامشلي داعياً الأهالي لإلتزام الهدوء والسَّكينة ومعاضدة المحافظ الَّذي أصبح مرجعهم الوحيد، فكان لكلام المندوب صداه الحسن في جميع الأوساط، وكانت النَّتيجة أنَّ الكثيرين من الَّذين عرفوا إرادة فرنسا الحرَّة انسحبوا من صفوف دعاة الفتنة، وهكذا فقد المتمردون جانباً كبيراً من نشاطهم، وعدداً غير قليل من أنصارهم، ولمسوا أنَّ فشلهم النِّهائي بات قريباً، فتوسَّطوا لدى مراجع دينيَّة في بيروت لإعادة سيادة المطران حبِّي إلى الجزيرة، وقد كان بقاؤه في بيروت وعدم عودته إليها إلى أن تنتهي هذه الحوادث المؤلمة وتعود الحياة إلى مجراها الطَّبيعي بالاتفاق بين الحكومة الوطنيَّة والسُّلطة الفرنسيَّة، ولماَّ علمت أنا شخصياً بالمساعي الَّتي يبذلها أبطال الفتنة، حذَّرت الحكومة الموقَّرة من عواقب عودته، فكان جواب حضرة رئيس الوزراء أنَّ ذلك غير صحيح، وأن المطران حبِّي سوف لا يعود إلى الجزيرة.  ولكنَّ لم تمض ثلاثة أيَّام على هذا الحديث حتَّى وردت برقية من الجزيرة تفيد بأنَّ سيادة المطران حبِّي وصل إلى الحسكة، بيد أنَّه لم يستقبل كما استقبل أولاً  بل كان استقباله بسيطاً جداً، ومع ذلك أخذ منذ عودته يضع بالاشتراك مع أعوانه خططاً جديدة لفتنة جديدة وراح يشيع بين النَّاس قائلاً ’’ لقد نلنا حقوقنا وفزنا في مساعينا ’’ ويتهم من يتهم بالخيانة والمروق والخروج على إرادة الجموع، ثمَّ قامت جريدة ’’ البشير ’’ البيروتيَّة يحمل حملات سافلة على رجال الجزيرة، وخصتني أنا نفسي بجانب كبير من تلك الحملات، ولكنَّني لم أعرها أذنا صغواء، بل مرَّرت بها مرَّ الكرام باللَّغو ، لأنَّها لا تستحق أن تقابل بغير السُّكوت، فقالت عني إنَّني لا أمثِّل إلَّا نفسي، مع أنَّها هي نفسها كانت تمتدحني في إبَّان الانتخابات، وتقول إنَّ المسيحيِّين لا يرضون بأن يمثلهم أحدٌ سوايّ، وكانت تقول الحقيقة في ذلك الحين، ولكنَّها لماَّ رأت أنَّ كرامتي أبت عليَّ الدَّم العربيِّ الَّذي يجري في عروقي أنْ أكون عالةً على بلادي، أجل لقد أبت عليَّ شهامتي أنْ أكون معولاً هدّاماً في كيان هذا الوطن، شنت عليَّ الغارة، وأخذت ترميني بأقبح التُّهم تشجيعاً للمتمردين أنَّني أصرح أمامكم وأعلن من هذا المنبر بأنَّني وإخواني وزملائي وكلُّ من يشد أزري ومن يعتقد عقيدتي، مستعدون أن نسفك آخر نقطة من دمائنا في سبيل حياة سوريَّة، هذه حقيقة يجب أن يفهمها المطران حبِّي ويجب أن تفهمها ’’البشير’’.  إخواني إنَّ المطران حبِّي لم ينفك عن دعاياته ومساعيه بل خطب في الكنيسة قبيل عيد الفصح داعياً النَّاس للإضراب عن المعايدة مالم ينالوا حقوقهم، ولكن أيَّة حقوق يطلبون؟ قرعت أجراس الكنيسة يوم السَّبت وأقبل المؤمنون للصَّلاة، ولكن أيَّة صلاة هي؟  إنَّها لم تكن صلاة لله بل كانت مؤامرة وتحريض، فأذاع على المصلين إنَّ الحكومة كانت عازمة على إطلاق سراح الموقوفين، ولكنَّ تدخل النَّائب سعيد إسحق وغيره في الأمر حال دون إعادة حرَّية الموقوفين إليهم. إنَّني أقول وأنا صادق في قولي إنَّني لم أتدخَّل ولن أتدخَّل بأمور هي من شأن القضاء وحده، فالقضاء حرٌّ ونزيه والحمد لله، لا يسمح لي ولا لسواي بأنْ نتدخل في أموره، ولم يكتف سيادة المطران بذلك بل أخذ يشيّع عني أنني سعيت للعفو عن الَّذين حكموا في قضيَّة عامودا، وبهذه المناسبة أقول بأن بعض الإخوان أشار إلى قضيَّة هؤلاء المحكومين قائلاً إنَّهم حكموا بحوادث عامودا، والحقيقة غير ذلك، فهم قد حكموا بقضيَّة التَّعرض للكابتن’ماير ’ يوم حادث عامودا ومحاولة قتله، أمَّا منكوبو عامودا الَّذين ذهبوا هم وأولادهم وأموالهم ضحيَّة المطران حبِّي وزمرته، فلم يعر حقوقهم ومطالبهم أحد أدنى اهتمام، وقد سبق لي أن راجعت الحكومة الموقَّرة طالبا إجراء تحقيق دقيق في قضيَّة عامودا وإنزال العقاب الصَّارم بجميع المسؤولين وبكلِّ من تحدِّثه نفسه بأنْ يخل بالأمن والنِّظام، وأنا لا أطلب عفّواً عن المجرمين ولكنَّني أطلب حكماً عادلاً .ولنعد الآن إلى قضيَّة الحسكة، خرج القوم من الكنيسة، ولكن من هم هؤلاء، إنَّهم فقراء ضعفاء مساكين وبعضهم من الرُّعاع، هؤلاء هم الَّذين أوفدهم من يختبئون وراء السِّتار، بعدما أثاروا الحماسة في صدورهم للوقوف في طريق المحافظ بحجَّة أنَّه لم يبرَّ بوعده بإطلاق سراح الموقوفين. لقد أرسلوهم وهم يعلمون حقَّ العلم أنَّهم لا يمكنهم أنْ ينالوا بغية من المحافظ بالرَّغم من أنَّهم يتسلَّحون بالعصي والمسدسات، ولكنَّ هدفهم كان إضرام نار الفتنة ليس إلَّا.  وهكذا أرسلوا هؤلاء الضُّعفاء المساكين وجرى للمحافظ ما جرى وناله من طيشهم ما ناله، كما أنَّه قتل منهم خمسة أشخاص عدا الجرحى الَّذين لا يرجى لبعضهم شفاء، فدماء هؤلاء القتلى تصرخ عالياً طالبة الانتقام من المطران حبِّي وشركاه، إنَّ هؤلاء القتلى الَّذين ذهبوا ضحيَّة الطَّيش لم يكونوا ضحيَّة طيش الحكومة السُّوريَّة ولا ضحيَّة ظلم الدَّرك الَّذين قابلوهم، بل ضحيَّة طيش وغايات هؤلاء المتمردين. فأنا أطلب من الحكومة باسم 95 بالمائة من سكَّان الجزيرة، إنْ لم أقل مائة بالمائة، باسم الإسلام والمسيحيِّين والأكراد والعرب وباسم جميع المخلصين، أنْ تضع الحكومة بالاتِّفاق مع الحليفة فرنسا حداً نهائياً لهذه المآسي، إنَّ هذه اللُّعبة شديدة الخطر، فإذا لم تقابل بما يضع حداً نهائياً ستفضي حتماً اإلى ما لا تحمد عقباه، والسَّلام عليكم).

وبتاريخ ( 3 آذار 1939م ) نظَّم الانفصاليُّون في الجزيرة استقبالاً للمفوض السَّامي بيو بعد أنْ أعلن هؤلاء الانفصاليُّون أنَّ قدوم بيو إلى الجزيرة لإعلان انفصال الجزيرة عن سوريَّة، وشُكِّل وفد لمقابلته برئاسة عبد الباقي نظام الدِّين في القامشلي  ودهام الهادي في الحسكة ودعا نظام الدِّين المفوض ألَّا يهتمَّ بالجموع من الأهلين المأجورين الَّذين يحملون الأعلام الفرنسيَّة وطلب أن تعاد الأمور إلى مجاريها بإعادة الأمن تحت ظلِّ الوحدة السُّوريَّة، بينما طالب ميشيل دوم أحد أعضاء الوفد بأنْ تنجز ما وعدت السُّلطة به لجماعة الانفصاليِّين من استقلال الجزيرة تحت الانتداب الفرنسيِّ، ودعا دهام الهادي فرنسا إلى البرِّ بوعودها والمصادقة على المعاهدة مع التمسك بالوحدة السُّوريَّة.

أمَّا حاجو آغا فقدَّم عريضة للمفوض تطالب باستقلال الجزيرة وعدم إرسال موظفين من دمشـــق وإطــــــلاق ســــــــراح المســــــــجونين المتَّهمين بخـــــــــطف المحافـــــــــــظ شــــــــــــــاميَّة.

مذكرة مسيحيي وأكراد الجزيرة إلى حكومة الانتداب، تموز ـ حزيران 1932تطالب بإدارة خاصة مناسبة لمنطقة الحسكة نشرت في مجلة الحوار الكردية العدد 56 عام 2007 بعدما جرى قراءة المذكرة من قبل احد المواقع الكردية وكتابتها بشكل واضح
نص المذكرة:   نحن الموقعين أدناه من رؤساء عشائر، تجار، مخاتير قرى وسكان الجزيرة، يشرفنا أن نلفت انتباهكم إلى القضايا التالية:

1ـ نحن سكان الجزيرة من مسلمين ومسيحيين، ننتمي إلى العرق الآري وإلى الأُمة الكردية، التي وبالنظر إلى تاريخها، أصلها، عاداتها وتقاليدها تشكل خصوصية كاملة وقائمة بحد ذاتها، وتشكل مقارنة بالسوريين في الداخل مجموعة متميزة.

2ـ لما كان سكان جبل الدروز والإسكندرونة وكذلك العلويين ينعمون بعطف حكومة الإنتداب، فإننا نسمح لأنفسنا أن نلتمس من فرنسا أم الحضارة والنور، أن تعترف لنا بإدارة خاصة مناسبة لمنطقتنا وذلك حتى تُضمن حقوق سكان الجزيرة البؤساء وتٌصان.

3ـ أُسست الجزيرة قبل حوالي ست سنين بفضل الجيش الفرنسي، الذي عمل على تحقيق الأمن، وقام تحت سلطة العلم الثلاثي الألوان بتأسيس حوالي مائتي قرية والعديد من المدن، وذلك بمساعدة المساعي الكبيرة للاجئين الذين لحقوا بأخوتهم في الدم الذين كانوا يسكنون المنطقة من قبل. لكن وللأسف قامت الحكومة المحلية آنذاك بإرسال موظفين حكوميين غير مؤهلين لا يجيدون لغتنا وليسوا جزءاً من هذا الشعب البائس. لن يستطيع السكان تحمل هذا الظلم أكثر من ذلك ولن يستطيعوا كذلك القيام بمساندة موظفين يريدون أن يحكموا بشكل مخالف للأنظمة والقوانين. لقد أصبح الكثير من أخواننا ضحايا أبرياء للجشع غير المشروع لهؤلاء الموظفين، بل وصل الأمر حد زجهم في السجون. إن الموظفين شوفينيون، ولايقبلون أن يأتي لاجئون ينتمون إلى قومية أخرى ويسكنوا في سوريا، وهم في الغالب لا يخفون هدفهم بتنفيذ برنامج يضع نصب عينيه تصفية الأشخاص الذين لا ينحدرون من العنصرالعربي في أول وقت ممكن.كنتيجة للتصرفات اللاشرعية لهؤلاء الموظفين المحليين اضطرت مئات العائلات إلى ترك منازلها في قامشلي وعين ديوار في منطقة الجزيرة والتجأت إلى مناطق الحكومات المجاورة.

4-يأمل سكان الجزيرة بالعيش تحت حماية الشعب الفرنسي، أٌم الحضارة والتقدم والمدافعة عن الحقوق القومية.سيكون هؤلاءالسكان ملتزمين ومدينين إلى الأبد لفرنسا التي تأمل منها الجزيرة التي تعيش حاليا وضعا بالغ السوء، انتعاشا اقتصاديا يجعلها تزدهر وتنمو.لقد فتحت الجزيرة من قبل خيرة جنود الجيش الفرنسي والمئات من المقاتلين الكرد الذين ضحوا بدمائهم في سبيل ذلك وسيكون مصيرهذه المنطقة الخراب والدمار إذا بقيت في قبضة الحكومة المحلية الجائرة، لذلك فإن ازدهارها وسعادة السكان ستتحقق إذا حظيت بإدارة خاصة.وهكذا ستقوم العشائر التي تستوطن المناطق المحاذية للخط الحديدي، بترك تركيا وستنضم إلى أبناء عشائرها الذين يتواجدون من قبل في الجزيرة، وسوف يجلبون الاعتراف لهذه المنطقة غير المأهولة.

نُذكَّر مرة أخرى بأهمية مطالبنا ونأمل من حكومة الانتداب أن تجيز لنا إدارة تليق بعاداتنا الإجتماعية وشعبنا المضطهد

الموقعون :

الرئيس الروحاني على السريان الكاثوليك في الحسكة ، توقيع
ـ القس ….، الرئيس الروحاني على الكلدان في الحسكة، توقيع
ـ الرئيس الروحاني على السريان القديم في الحسكة، خاتم
ـ جميل بك زادة ، صاحب أراضي (ملاك) في الحسكة، توقيع
ـ عضو مجلس إدارة الحسكة، توقيع
ـ مصطفى بك زادة، رئيس المقيمين من عشيرة ميران في الحسكة، خاتم
ـ رئيس المقيمين من عشيرة هفيركان في الحسكة، التوقيع: حاجو
ـ …. إبراهيم باشا، رئيس عشائر الملية، خاتم
ـ إسكندر مرشو، تاجر من الحسكة، خاتم
إلياس مرشو، تاجر من الحسكة، توقيع ( هذه جزء من الأسماء الوارده بالمذكرة وان ماورد نقاط هو غير واضح ).

بعد اللِّقاء وعد بيو بالإفراج عن إلياس مرشو ومجموعة الخاطفين وفي (12 آذار 1939م ) بدأت محكمة الجنايات بدمشق بمحاكمة المتَّهمين الخمسة بجناية خطف المحافظ توفيق شاميَّة واعترف مرشو بواقعة الخطف للمحافظ إلَّا أنَّه بيَّن أنَّ الحكومة كانت السَّبب بالخطف كونها لم تحقق وعودها بتنفيذ مطالب أهالي الجزيرة ولجؤوا للخطف، وحكمت المحكمة على المتَّهمين الخمسة بالسِّجن سنة ونصف وتحتسب المدُّة من تاريخ إلقاء القبض عليهم بعد أن جنحت الجناية وأخلي سبيلهم بسند كفالة في نفس يوم إصدار الحكم وهو ( 27 آذار 1939م ) ومن ثمَّ صدر عفو عنهم عن المدَّة الباقية، ووجَّهت المفوضيَّة في ضوء ذلك برقية إلى حاجو آغا والَّذي عامله الفرنسيُّون بوصفه محافظاً وبشكل غير رسمي  وذلك بإطلاق سراح مرشو ورفاقه بينما مضت في معاقبة الوطنيِّين وعند وصول مرشو للحسكة نزل في بيت حاجو آغا اعترافاً بزعامته وبذلك تكون قضية مرشو ورفاقه قد انتهت.

البَنْدُ الثَّانِي -تَطْبِيقُ نِظَامِ المُحَافَظَاتِ لِلجَزِيرَةِ مِنْ قِبَلِ المُفَوَّضِيَّةِ الفَرَنْسِيَّةِ:

النِّظام اللَّامركزيُّ ’’ نظام المحافظات ’’ : كان هناك مقترح من السِّيناتور هنري هاي يقوم على اخضاع سوريَّة إلى احتلال عسكري لمدَّة عامين أو ثلاثة تستقرُّ فيها الأمور ويطبَّق عليها نظام دول سوريَّة متَّحدة فدرالياً يشمل محافظات دمشق وحلب وجبل الدُّروز واللَّاذقية والجزيرة تتولى فيه المفوضيَّة مسؤولية الأمن الدَّاخلي والخارجي، وطبَّق المفوض السَّامي في سوريَّة بيو هذا النِّظام وأضاف إليه نظام المحافظات تحت نظام ملكي يرمز إلى وحدتها باعتبارها دولة، فأوجد مفهومي المحافظة، والمحافظة المستقلة، والمحافظة المستقلة تتبع إلى سلطة المفوضيَّة ومندبيها ويديرها محافظ مستقل من أبناء المحافظة، أمَّا المحافظة فيمكن أن يديرها من تعينه الحكومة من خارج الجزيرة، أمَّا النِّظام الخاص فطبقه بيو في الجزيرة ومناطق البدو والَّذي يشبه المنطقة المستقلة نظراً لأنَّ تركيّا تعارض إنشاء أي كيان كرديٍّ أو سريانيِّ في الجزيرة، وهذا النِّظام يجمع بين الاثنين ويترأسه حاكم فرنسيُّ، وأجرت الحكومة انتخابات لمجلس المحافظة في الجزيرة وعينت حاجو آغا رئيساً /ويُعتبر ذلك اعترافاً بإخلاصه لفرنسا والَّذي يرفض جلاءها / وغالب درويش وهو كرديٌّ  نائبٌ له، والاثنين كانا أمِّيين لا يجيدان القراءة والكتابة، وأصدر بيو القرار رقم 225 تاريخ ( 9 أيلول 1939م ) وأنشأ بموجبه اللُّجنة العقارية الاستثنائية لمحافظ الجزيرة برئاسة المحافظ الفرنسي الجديد، وقسَّمت الجزيرة إلى دوائر عقارية وكلِّ دائرة1800هكتار فما دون، وحدثت الخلافات على حيازة الأراضي.وكان الفرنسيُّون يعرفون أنَّ الخلافات على الأراضي تقع بشكلٍّ مستمرٍّ بين عشائر تلك المنطقة وقبل صدور هذا القرار، إلَّا أنَّهم أرادوا أنْ تبقى هذه المنطقة متوترة لاستمرارهم فيها.

البَنْدُ الثَّالِثُ- الخِلَافَاتُ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ العَشَائِرِ فِي تِلْكَ المَنْطِقَةِ:

لخَّصها أحمد وصفي زكريا بكتابه عشائر الشَّام ووفقاً لما يلي:

أولاً- الخلاف بين شمَّر والفدعان: بعد أنْ توفي العاصي جد دهام في سنة        ( 1343هـ /1925م) نقض دهام الصُّلح الَّذي كان بين شمَّر والفدعان، وجهز غزواً كبيراً من جميع شمَّر (الخرصة وسنجاره) وهاجم الفدعان، فتدخَّلت السُّلطة الفرنسيَّة وأوقفت القتال، وفرضت الصُّلح على الفريقين في مؤتمر دير الزُّور سنة (1344هـ/ 1926م) لكنَّ الفتنة نشبت مرَّة أخرى في سنة ( 1347هـ / 1929م ) في أنحاء جبل عبد العزيز بسبب المراعي، فتدخَّلت القوى والطَّيارات الفرنسيَّة، وانتهى الصُّلح في المؤتمر الثَّاني الَّذي عقد في دير الزَّور أيضاً، وساد الوئام من ذلك الحين.

ثانياً – الخلاف بين شمَّر وعشيرة ميران الكرديَّة: في ربيع (1350هـ /1932م) قتل أحد إخوان الشِّيخ دهام الهادي في صدام حدث بين فرسان من شمَّر الخرصة، وآخرين من أكراد الميران، يقودهم نايف بك بن مصطفى باشا المستو، ولم تنجع الوساطات في تأدية الدِّية، إلى أنْ حكم نايف بك بالسِّجن ثمانية أشهر قضاها وخرج، وظلَّت الحزازات مستمرة بحكم أنَّ المقتول رئيس ووجيه، لا يغسل دمه إلَّا بالدَّم، بمقتضى العرف العشائري، على إنَّ أهل الخير يأملون تسوية هذا الأمر بالحسنى، اعتماداً على الرُّوح الطَّيِّبة في الفريقين.

ثالثاً- الخلاف بين شمَّر والعقيدات : في صيف سنة (1360هـ / 1942م ) قتل العقيدات صفوق الفيصل ابن عمِّ صفوق بن عجيل (الياور) شيخ شمَّر العراق، في غزوة كان يقودها على العقيدات داخل الحدود الشَّاميَّة (السُّوريَّة) الَّتي تخطاها، فحدثت فتن ومعارك كثيرة من جراء هذا القتل، واتَّسع الخرق، وثأر شمَّر الجزيرة من العقيدات لابن عمِّهم المقتول، وسلبوا لهم غنماً وفيراً، جلَّه لتجار دير الزُّور، وعقد مؤتمر للصُّلح في الموصل، قرَّر المحكمون فيه (قاعدة الحفر والدَّفن)، لكنَّ هذا الصُّلح لم يرق للعقيدات، فجدَّدوا غاراتهم على شمَّر العراق، ذلك لأنَّ ثلاثة شيوخ العقيدات وهم فارس الصَّياح من الدِّميم، ومشرف الدَّندل من الحسون، وتركي النِّجرس من الثِّلث، لم يرضوا بالشَّيخ جدعان الهفل أكبر مشايخ العقيدات، الَّذي لم تستشر السُّلطات سواه في المفاوضات عن جميع العقيدات، فأعيد المؤتمر في دير الزُّور( 1361هـ / شباط1942م) وعقد الصُّلح نهائياً، ووقَّعه كلُّ شيوخ العقيدات، كما وقَّعه الشَّيخ صفوق الياور، وأعيد الغنم المنهوب إلى أصحابه، لكنَّ هذا الصُّلح لم يدم للأسف، فتكرَّرت غارات العبدة من شمَّر على العقيدات، مرَّتين خلال سنة: ( 1945 م ).

رابعاً – الخلاف بين شمَّر والبقارة : كان خالد الحمى الطَّلاع رئيس فرقة البومعيش من بقارة الزُّور نزح عن عشيرته لحوادث دم وغيرها، ولجأ إلى الشِّيخ ميزر عبد المحسن رئيس شمَّر الزُّور، وأقام على الحدود العراقيَّة السُّوريَّة مدة سنتين (1934-1936م) ولماَّ أجازت الحكومة إلى الشِّيخ ميزر بوضع اليد على خمس قرى في ناحية الدِّرباسيَّة ذات مساحات عظيمة، نقل خالد الحمى فرقته إلى هذه القرى، وحملهم على استثمارها بالشَّراكة مناصفة، فظلَّ خالد المذكور فيها حتَّى سنة ( 1937م) الَّتي اشتدَّت فيها حركات الفرنسيِّين ضد الحكم الوطني، وانحاز بعض ذوي الضَّمائر الرَّخيصة إليهم، ومنهم خالد المذكور (فيما رووه ) وأراد الفرنسيُّون وقتئذٍ أنْ ينتقموا من الشَّيخ ميزر لموقفه الوطني، بعد أن كانوا يظنونه معهم، فحملوا خالداً على عصيان ميزر، واغتصاب القرى وطرد جماعة ميزر منها.  وشرع ميزر بالمراجعة والادعاء وسعى كثيراً إلى حلِّ المعضلة بالحسنى، فلم يوفق خلال سني ( 1938م / 1943م ) الَّتي كانت الكلمة فيها للفرنسيِّين، وظلَّ خالد الحمى مغتصباً القرى والحاصلات، وصدف أنَّ أحد الأكراد من الكيكيَّة وهو الحاج درويش موسى رئيس إحدى فرق الكيكيَّة باع قرية تلِّ بيدر إلى خالد الحمي المذكور، فلم يرق هذا البيع إلى عشيرته، لكرههم مجاورة البقارة  وأرادوا منعه، ثمَّ كان خلاف قديم بين الشَّرابيِّين والبقارة، ومن هنا اتَّحدت شمَّر وميزر والكيكيَّة والشَّرابيِّين ومعهم حرب، باعتبار أنَّ الحلف لشمَّر، وهاجموا البقارة واشتبك هذان المعسكران في معارك ظفر البقارة في الأولى منها، ثمَّ دالت عليهم في التَّالية، وفي الأولى بلغوا بيت الشَّيخ ميزر في قرية سهكي ( ثلاثة تلال ) واقتحموه ونهبوه، وهو عمل معيب عند العشائر، لأنَّ الرَّئيس الغالب إذا دخل بيت الرَّئيس المغلوب يجب عليه أن يحتلَّه ويصونه من النَّهب، وإذ  كان البقارة عملوا خلاف ذلك، ثارت ثائرة شمَّر كلِّها، وانجدوا ميزراً ، وتفاقم الخطب وسالت الدِّماء، ووقع من الفريقين فيما قيل مئات القتلى من الرِّجال، خلاف الأطفال والنِّساء الَّتي لا تذكر، وخربت مئات القرى  ونهبت عروض لا تحصى، وقيل أنَّه كان لبعض الموظَّفين يد سيئة في هذا الأمر، وطال الخلاف وعقدت عدَّة مؤتمرات للصُّلح بحضور محافظي الجزيرة والفرات وغيرهم في أوَّل سنة (1946م )  لم تثمر عن نتيجة إلى أن أثمرت في المؤتمر الأخير الَّذي عقد في نيسان تلك السَّنة، وكان فيه السَّيِّد نوري أيبش ومجحم آل مهيد وراكان آل غبين، وتمَّ الصُّلح على قاعدة ( الحفر والدَّفن ) بعد أن حدِّد عدد القتلى بثمانين من جماعة شمَّر، ومثلهم من البقارة، وعدد القرى الَّتي خربت ب 135 وهكذا انتهت هذه الفتنة الشَّعواء.

خامساً- الخلاف بين شمَّر والبومتيويت : حدثت في شهر ( آب 1946م ) فتنة شعواء أخرى، كالَّتي سبقت، ضمن الحدود العراقيَّة بين شمَّر العراق تناصرهم شمَّر الجزيرة من جهة، وبين عشيرتي الآبو متيويت والجحيش الموصليَّة تناصرها يزيديَّة سنجار من جهة أخرى ، وسببها هو خلاف على أرض للمرحوم الشَّيخ عجيل الياور اقطعها للابي متيويت والجحيش على أنْ يستغلوها، وتكون مناصفة بينه وبينهم، فأدُّوا ما عليهم في السِّنتين الأوليتين، ثمَّ امسكوا في الثَّالثة وقالوا لن ندفع، فرفع أبناء عجيل الأمر إلى الحكومة العراقيَّة مراراً، لكنَّه ظلَّ بدون حلٍّ، إلى أنْ تجدَّد النِّزاع في ( آب سنة 1946م ) وتفاقم حين مجيء أبناء عجيل لطلب حصصهم من الغلال، ورفض اخصامهم التَّسليم، فوقعت أعنف معركة بدويَّة في زمننا سالت فيها الدِّماء واحترقت بيادر وخربت القرى الواقعة حول مكان النِّزاع، وسقط مئات من القتلى والجرحى من الفريقين، وقد هرع معظم شيوخ شمَّر من الحدود الشَّاميَّة إلى المعركة، تأيِّيداً لشمَّر العراق في حركتها، ووقفت الجزيرة بعربها وكردها إلى جانبهم، وأقبلت القوات العراقيَّة والسُّوريَّة، وتوسَّط العقلاء وهدأوا الحالة، وانعقد الرَّجاء بأنْ تبادر الحكومة العراقيَّة لحلِّ الخلاف، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه.

سادساً- الخلاف بين شمَّر وعشيرة الملِّي الكرديَّة: حدثت معارك عديدة بين شمَّر وعشائر الملِّي الكرديَّة، ، كانت خلالها شمَّر متنازعة مع بعضها البعض، ممَّا أدَّى إلى الفشل وذهاب الرِّيح وإلى فوز إبراهيم باشا رئيس عشائر الملِّي المذكورة على شمَّر فوزاً  كبير، ذكر ذلك محمَّد علي بك بن خليل بك آل إبراهيم باشا، وأكَّده الشَّيخ دهام وأقرَّه  وبيَّن أسبابه، وهو التَّنازع المذكور، إلَّا إنَّ هذا الخصام القديم تبدل بعد إلى صلح ووئام، وحصلت مصاهرة بين الفريقين بزواج الشَّيخ ميزر عبد المحسن رئيس شمَّر الزُّور (سنجاره ) بابنة خليل بك المومأ إليه.)
البَنْدُ الرَّابِعُ – ثَوْرَةُ بيَاندُور :جرت أحداثها عام (1923م) فقد  أسَّست القوات الفرنسيَّة وعند دخولها لتلك المناطق قاعدة عسكريَّة (حاميَّة) وكان قائداً عليها الضَّابط الفرنسي روكان،  وكان هذا الضَّابط يعامل سكَّان تلك المنطقة من قبيلة طيء وعشيرة الشِّيتيَّة الكرديَّة معاملة سيئة نتيجة إنَّ هؤلاء السُّكَّان لا يتماشوا وسلوكياته الَّتي تربى عليها في المجتمع الفرنسيِّ، وأقدم على إعدام أحد وجهاء عشيرة الشِّيتيَّة الأكراد وهو المدعو سليمان عبَّاس، وكان هذا الحدث الشَّرارة في إشعال الثَّورة لدى الأهالي في تلك المنطقة من عرب وكرد، وسيَّما الشَّيخ محمَّد العبد الرَّحمن شيخ طيء بالمنطقة، ونفي إلى جزيرة أرواد عقاباً له على مواقفه بمواجهة هذا الضَّابط والفرنسيِّين بشكلٍّ عام، ورحل الضَّابط روكان إلى منطقة ديريك وأسَّس معسكر جديد قرب قرية / باب الحديد / وانشأ مطار حربي وثكنة للمدفعيَّة بقرية الشَّمام، وهاجم قاعدة بياندور الفرنسيَّة حاجو آغا أحد رجالات الأكراد مع مجموعة من الأكراد وغنموا فيها من عتاد وفر برجاله إلى الجبال في تركيَّا خوفاً من ردَّت فعل الفرنسيِّين والهجوم عليه بالطَّيران، وتسارعت الأحداث مع أبناء طيء وقرروا إنهاء وجود روكان وحدَّدوا مكان الالتقاء بروكان بالجهة الشَّرقيَّة من القحطانيَّة واختاروا أعلى نقطه فيها، وسمع بالخبر أحد شيوخ قبائل شمَّر وهو الشَّيخ مثقال العاصي الجربا، وأراد أن يشترك بتلك المعركة وقام بمهاجمة الحاميَّة الفرنسيَّة أثناء عودتها إلى بياندور وتابع روكان مسيره باتجاه بياندور ووصل إلى مشارفها إلَّا أنَّه كان هناك فرسان قبيلة طيء الجوَّالة وفرقة الخيَّالة فاجؤوا روكان. أطبقوا عليه من الجهتين وانتهت المعركة بمقتل القائد الفرنسيِّ روكان وعدد من رجاله وغنم الثَّائرون العتاد والرِّكائب وعلى أثر ذلك اتَّجهت عشائر طيء شــمالاً تحسباً لانتقام الفرنسيِّين الَّذين قصفوا الموقع بالطَّائرات والمدفعية، وســمع المندوب السَّــامي الفرنســيِّ بدمشق بتلك الأحداث فأمــر بإحضار الشَّـــيخ محمَّد العبد الرَّحمن مـن مـــنفاه وطـلب منه تهدئــة قبيلتـــه وأفــــرج عنــــه وعــــاد إلى قبيلته واستقبل بالأهازيج.

البَنْدُ الخَامِسُ – نُشُوءُ المُدُنِ وَالبَلْدَاتِ :

خلال هذه الحقبة الزَّمنيَّة نشأت المدن والبلدات ( القامشلي عاموده، الدِّرباسيَّة وغيرهم ) وعن مدينة القامشلي يقول أنيس مديوايه ( تأسَّست مدينة القامشلي في عام ( 1925 – 1926م ) على أثر دخول القوَّات الفرنسيَّة إلى هذه المنطقة، بقيادة المستشار الفرنسيِّ الملازم TERIEH، وسمِّيت باسم (قامشلي) وتعني القصب باللَّغة التُّركية، وقد كان القصب يكسو بكثافة ضفَّتي نهر جغجغ، الَّذي ينحدر من نبعين اثنين من جبل الطُّور، ( أي طور عابدين – جبل العابدين )، وهو سلسلة هضاب متَّصلة تقع في جنوب شرق تركيَّا، الموازية مع الحدود السُّوريَّة التُّركيَّة، وتشمل مدينة ماردين والبلدات والقرى المجاورة لها..)[7].

كما جاء لأحمد وصفي زكريا ( وقد أنشئ في الجزيرة داخل الحدود الشَّاميَّة وجنوبي سكَّة حديد حلب الموصل عدَّة بليدات منها القامشليَّة إزاء نصيبين عاصمة الجزيرة قديماً. وقد ظلَّت نصيبين داخل الحدود التُّركيَّة، رغم وقوعها جنوبي الخطِّ الحديديِّ.  وبليدة عموده إزاء دارا القديمة، والدِّرباسيَّة إزاء مثيلتها وسميتها، وتلِّ أبيض إزاء أقجة قلعة، وغيرها ممَّا اقتضته دواعي التَّحديد بين دولتي الشَّام وتركيَّا، وأنشئت وسط الجزيرة بليدة الحسكة الَّتي اتَّخذت قاعدة للمحافظة، هذا إلى مئات من الضِّياع والضُّييعات المستحدثة المنتشرة، أخصَّها قبور البيض وتلِّ براق وتلِّ تمر وديريك وغيرها.)[8].

وفي لقاء مع أحد أولاد حمود العليوي السُّليمان بيَّن لنا عن بدايات نشوء مدينة الحسكة فقال: ” كان هناك معبار بين ضفَّتي نهر الخابور بين الشِّمال والجنوب عند المنطقة الَّتي تُعرف الآن “بحيِّ غويران ” في الحسكة، وكان النَّاس يعبرون من الضِّفَّتين وبحكم وجود الحركة السُّكَّانيَّة جاء أحد الأشخاص وكان يمارس مهنة البائع الجوال ” حوَّاج ” ويدعى عمسي موسى والَّذي قام بنصب محلٍّ على شكل “برَّاكه ” لبيع حوائج الَّذين يعبرون وكان هناك مخفر للدَّرك، وفي هذه الأثناء قدم من دير الزُّور عليوي أحمد السُّليمان والَّذي أشاد أوَّل منزل في مدينة الحسكة في الجهة الشِّماليَّة من المعبار وفي المنطقة الَّتي تعرف بمنطقة المحافظة، ومن ثمَّ انتشرت البيوت، وعن سبب تواجد بيوت آل عليوي في حيِّ غويران في الجهة الجنوبيَّة لنهر الخابور فكان بسبب أن عمَّه ياسين عليوي السُّليمان أن رفض التَّوقيع على وثيقة الموافقة على الانتداب الفرنسيِّ وكان الوحيد الَّذي رفض وأدَّى ذلك إلى مصادرة أراضي آل عليوي من قبل الفرنسيِّين وترحيلهم إلى الضِّفَّة الجنوبية وما يعرف الآن بحي غويران والَّذي كان أرض زراعيَّة خالية من البيوت والسُّكَّان “.

البَنْدُ السَّادسُ – قِيَامُ الثَّوْرَةِ الزِّرَاعِيَّةِ:

فقد قامت الثَّورة الزِّراعيَّة على أيدي عائلة أصفر ونجَّار فقد أحضرت الآلات الزِّراعيَّة عام ( 1932م ) كما أحضر شاهين معلوف من زحلة جرَّارة وحصَّادة وتبعه موسى ستراك وجورج وعزيز بدرو، وفاكياني أخوان وهدايا أخوان وغيرهم. وكانت الجزيرة السَّبَّاقة من كلِّ المحافظات في استخدام الآلات الزِّراعيَّة. وبعد الحرب العالميَّة الثَّانيَّة أسَّس بعض أبناء القامشلي معامل حديثة لإصلاح آلاتها فجاؤوا بأحدث المعدَّات لصهر المعادن وسكبها وخراطتها وصنعوا الكثير من قطع التَّبديل الغير متوفرة والَّتي تضاهي ما تصنعه أميركا وأروبا من جودة. وصنَّعوا الدِّيسكات من أجل الفلاحة وكان مؤسس هذه الصِّناعة كيفورك كبابجيان وشركائه. ومن الشَّــركات المميَّزة الجبَّارة شــــركة أصفر ونجَّار. وللشــركة بناء حديث أقيم في مرتفع يشـــرف على وادي الخابور. وقد اختارت الشَّركة اسم مبروكة لمؤسستها الكبرى للزِّراعة البعلية في قلب بادية رأس العين. وجعلت في هذه البلدة مباني حديثة مكاتب للشَّركات، وموظَّفين عاملون بإدارة الأعمال ضمن المكاتب. وأبنية معدَّة خصيصاً لإيــواء العمال من غـــرف نــوم ومــوائد طعام وكل مسـتلزمات الحياة, ومستودعات الحبوب ومخازن لقطع الغيار وبنايات مخصَّصة للمحروقات ومســتودعات مختلفة ومعمل مــيكانيكي ضخم وورشــات صناعيَّة مختلفــة وكلُّ مستلزماتهم هي من صناعتهم المحليَّة من الآلات إلى الأنابيب الضَّخمة والسُّدود والمغالــق وفيها محركــان ضخمان يولــدان الطَّاقــة الكهربائيَّة وفيها فــرن خاص بالمـــازوت يمـــدهم كل يــــوم بخبز حــار وجديد.

وكانت لهم مكاتب ومؤسسات عـديدة ومئات الآلات الزِّراعيَّة هذه الأعمال الواسعة الضَّخمة وآلاف العمال والموظَّفين والإداريين من أبناء المنطقة والمحافظات الأخرى وســـــريان طــور عابدين الَّذيــن كانـوا يعـبرون الحــدود التُّركيَّة صيفاً فيعملون في الحصاد حيث يكســبون بعض المــال ليـــعودوا بــه إلى ذويـــهم بــــعد ذلك. وكان من أعمالهم شقُّ الأقنية إلى البادية واستصلحوا الأراضي الَّتي كانت خالية، وأصبحت أراضي زراعيَّة ممتازة في غضون سنوات قليلة، وأقاموا السُّدود وشقُّوا الطُّرقات. وكان قد زار المنطقة وفد مصري يترأسهم نائب رئيس الجمهورية ويرافقه مدير عام مصلحة تربية النَّباتات السَّيِّد عبد الفتاح محمَّد السَّيِّد والَّذي أُعجب بما رأى أنَّ أيَّة حكومة لتعجز عن القيام بمثل هذا العمل. وكان على رأس الزِّراعات زراعة القطن والَّذي يسمَّى بالذَّهب الأبيض وإنَّ الإنتاج كبير ولا تستطيع السَّيَّارات من نقله، وكذلك زراعة الأرز فقد بيَّن أنيس حنَّا مديوانه في إحدى برامج القنوات الفضائيَّة ( وحريٌ بنا أيضاً أن نأتي على ذكر زراعة الأرز الَّتي ظهرت آنذاك بشكل واسع مما حدا بمديرية المال في القامشلي إلى تشكيل شعبة خاصة لجباية الرُّسوم المترتِّبة على محاصيل الأرز ويذكر أنَّ المزارع السَّيِّد فيكتور خبَّاز الَّذي كان يُطلق عليه اسم “ملك الرُّزِّ” هو أوَّل من استورد في عام(1940م )حصَّادة حديثة لحصاد مزروعاته من الحبوب).

وكان ينقل بعض من هذه المحاصيل عن طريق الخطِّ الحديدي تلِّ كوجك حلب ولكن لم يمكن الاعتماد عليه لأنه خطٌّ تركي يسير حوالي 380 كم في تركيَّا ويحدث كثيراً أنْ يرفض هذا القطار نقل البضائع. ولهذا رأى الكثيرون من أهل الاختصاص أن تربط الجزيرة بخطٍّ حديدي يبدأ من القامشلي وينتهي بالسَّاحل السُّوريِّ وعند ذلك تتصل الجزيرة بالبحر والخليج العربيِّ. وفي عام ( 1943م ) أحدثت إحدى الشَّركات الفرنسيَّة خطاً جوياً بين دمشق الحسكة وتوقفت الشَّركة عن العمل عام ( 1945م ) وبعدها وبعام ( 1947م ) جاءت الشَّركة السُّوريَّة لتربط الجزيرة مع دمشق، وصارت الطَّائرات تهبط بالقامشلي بدلاً من الحسكة لأهمية القامشلي.

[1]- التكوين التاريخي للجزيرة السورية لباروت  ص 448.

[2]- التكوين  التاريخي للجزيرة السورية لباروت  ص 451.

[3]– دراسة موجز القضية الآشورية في القرن العشرين، ص54-55.

[4]- مؤلفه “القامشلي”.

[5]- التكوين التاريخي للجزيرة السورية  جمال باروت ص899.

[6] – صفحات منسية من تاريخ الجزيرة السورية صالح هواش المسلط ص 61-75

[7]- القامشلي 1925 – 1958م .

[8]- عشائر الشام ج اول ص 23.

 

 

المعلومات مأخوذة من كتاب الجزيرة السورية بين الحقيقة والوهم 

لمحة عن الكاتب:

 

ياسر ياسين العمر

سورية – مدينة دير الزور – تولد عام 1960

حاصل على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق عام 1978

الانتساب الى نقابة المحامين فرع دير الزور عام 1989

شغل منصب امين سر نقابة المحامين بديرالزور وترك هذا المنصب 2012

اتبع دورات عديدة في التحكيم

وحصل على شهادات تثبت اتباعه لتلك الدورات من غرفة التحكيم العربية وغرفة باريس .

-محكم لدى المركز الدولي للتوفيق والتحكيم والخبرة بسورية

-محاضرا سابقا في برنامج الأمم المتحدة للمنح الصغيرة

-متبع دوره في إدارة المجتمعات الاهلية

– عضو في اتحاد المؤرخين العالمي

– عضو في هيئة القانونيين السوريين

شاهد أيضاً

دير الزور.. لمعة في تاريخها ((مقال عن مدينة دير الزور قبل نحو 114 سنة ))

بقلم الأديب عبد الكريم نوري أستاذ اللغة الفرنسية سابقاً بلواء دير الزور.. تحرير و تدقيق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *