فيضة ” أبو عبار “

حوادث قد لا تتكرر خلال عقود طويلة، إلا أنها لا تموت بل تنتقل لغرابتها وندرتها من جيل إلى آخر، لنجدها جذابة عند من عاشها وأكثر جاذبية عند من سمعها وتمنى لو أنه يعيشها، فتخالف بذلك السنة الطبيعية للأشياء التي تبهت كلما طال بها الأمد، وفي “دير الزور” ربما تكون القصص المرتبطة بالفرات وذاكرته من أمتعها وخاصة ما ارتبط منها بما سمي “فيضة أبو عبار”.

في نيسان من العام 1929 كان التوقيت المألوف للفيضان لكن فيضان ذاك العام هو الذي لم يكن مألوفاً فقد كان من الجبروت بحيث اقتلع الأشجار من على ضفتي النهر وكذلك اقتلع “الغراريف” ووسائل السقاية الأخرى غامراً الكثير من الجزر المسماة باللهجة المحلية “الحوايج النهرية” التي كان يحتضنها بالإضافة إلى غزارة في الأمطار ما أدى إلى زيادة الفيضان وبالتالي غمر قسم كبير من الشواطئ وإلحاق الخراب بالأراضي الزراعية، ثم طمر منطقة العثمانية “الحويقة” وهدم الكثير من الجدران واتصل الفرع الكبير بالفرع الصغير ما اضطر أهالي هذه المنطقة إلى التنقل عن طريق السفن النهرية بين مساكنهم التي كانت قبل الفيضان أراضٍ جافة كما أنه وصل إلى سوق “الصاغة” الذي يبعد عن النهر حوالي 400 متر وارتفع منسوب المياه فيه وأطلق عليه الأهالي فيما بعد التسمية التي لازمته إلى يومنا هذا “شارع النهر”.

 

أما عن سبب تسمية “الفيضة” “أبو عبار” فترجع التسمية إلى أحد أبناء “الدير” ويدعى “اسماعيل الهوية” “أبو عبار” وهو من عرب الترك وكان يقطن “الدير العتيق” شاهد النهر وهو يقتلع الأشجار من ضفتيه ومن “الحوايج النهرية” التي كان يغمرها حتى اقتربت إحدى تلك الأشجار من الشاطئ فخلع ثيابه ورمى بنفسه في “الفرات” ظناً منه أنه قادر على الوصول إليها فلف ذراعه حولها وراح يجذف بالذراع الأخرى حتى وصل إلى “الجسر العتيق” فارتطمت مقدمة الجذع بإحدى قوائم الجسر ما أدى إلى ارتكاسها فغرقت آخذة معها “أبو عبار”، ليعطينا وإياها ذكرى يتناقلها أهل “الدير” وسنةً باتت مفصلاً تاريخياً يؤرخ الناس بها مناسباتهم الاجتماعية فمن ولد في تلك السنة يقال له “ابن عبار” أو “ابن الفيضة” وكذلك يؤرخ لمن ولد قبلها أو بعدها.

 

 

وقد كتب أحد أبناء دير الزور شهادته في توثيق الحادقة بالقول:


جرت احداث هذه القصة في دير الزور في وقت مضى وتتحدث بأنه كان لنهر الفرات العظيم غضبه السنوي وكان هذا الغضب في شهر نيسان من كل عام وذلك قبل بناء سد الفرات، وهذا الغضب لا يخلو من منافع يجلبها الفيضان إلى الأراضي من طمي جديد يترسب على ضفاف النهر على امتداده مما يكثر من خصوبة الأرض إلا أن أضراره الكبيرة التي كانت تنصب على الأهالي والمزروعات والبيوت المدمرة وقد عاني منها الناس الكثير الكثير.

هذا الغضب أحياناً يأتي بسيطاً دون آثار كبيرة إلا أن فيضان سنة 1929 ميلادية لم يسبق للفرات أن غضب كما غضب في هذا العام ولا حتى في السنوات اللاحقة فكان غضباً شديداً وسميت السنة باسمه ( سنة الفيضة )

حتى أن مواليد هذا العام في الدير نسبت إليه فقيل إن فلان أو فلانة ولد أو ولدت في عام الفيضة وهي عادة أن تنسب الولادات إلى أحداث مشهورة حدثت.

أبو عبار هذا الرجل من أهالي دير الزور وكان يروى عنه أنه ماهر في السباحة إلا إنه غرق وقضى نحبه في هذه الفيضة، غرق في هذا الفيضان العظيم، وكما قلت وكما روى من يعرفون الرجل معرفة تامة أنه ماهر في السباحة ومع ذلك فقد غرق فكم كان هذا الفيضان كبيراً حتى غرق سباح شهد له جميع أهل البلد بمهارته وقدرته على السباحة وقيل إنه أنقذ الكثير من الغرقى.

أما الفيضان وشكله كما رواه شهود عيان ما زالوا على قيد الحياة، قال أحدهم واصفاً هذا الفيضان: أنه كان فرع الفرات الجنوبي (الأعيور) كما يسميه أهل البلد والجسر المعلق لم يكن قد أنجز بناؤه بعد، وأن المياه في الفرعين أثناء الفيضان قد اختلطت أي أن (الحويقة) قد غرقت وأن ماء الفيضان قد غمر كل بساتين (الحويقة)، وقد رحل قسم كبير من أهل دير العتيق المطلة بيوتهم على النهر.

وذكر أن الماء قد وصلت إلى قرنة حج فاضل المرتفعة عن منسوب النهر كثيراً، كما أنه من الناحية الشمالية وصلت المياه إلى منطقة المعامل الحالية ( السبعة كيلو متر )، كما أن معظم ( السدات ) على النهر قد كسرت وأن أضراراً كبيرة قد لحقت بالسكان والمزروعات وغرق الكثير من الأهالي في المدينة والقرى الواقعة على النهر كما روي أنه قد وصل أجر نقل الناس بواسطة المعابر المائية أو حملاً على الأكتاف وكان هناك أناس مختصون بعملية النقل هذه وأن أجرهم العادي  في الأيام العادية كان لا يتعدى نصف قرش إلا أن هذا الأجر أصبح في يوم الفيضان ليرة ذهبية عن كل شخص ، وهو مبلغ كبير وكبير جداً بالقياس للأجر السابق والعادي من جهة ومن جهة أخرى بالنسبة للوضع المعيشي لأهل الدير في ذلك الحين .

 

ملاحظة: الصورة مأخوذة من صفحة متحف ديرالزور الفوتوغرافي Deir Ezzor Photographic Museum على فيس بوك

شاهد أيضاً

دير الزور.. لمعة في تاريخها ((مقال عن مدينة دير الزور قبل نحو 114 سنة ))

بقلم الأديب عبد الكريم نوري أستاذ اللغة الفرنسية سابقاً بلواء دير الزور.. تحرير و تدقيق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *