“الملايات والسقا”

في أربعينيات من القرن الماضي لم تكن هناك شبكة لتوزيع مياه الشرب إلى المنازل واعتمد أهالي “دير الزور” على “الملايات والسقا” في نقل الماء إلى منازلهم، وهذا العمل الشاق كان له مردوده المادي الذي يعين بعض العائلات الفقيرة على كسب رزقهم وقوت يومهم.


الحاجة “شمسة التمر” قالت: «كنت أشاهد “الملايات” في الشتاء وهن يحضرن إلى دارنا حاملات قربهن على ظهورهن وبعد أن يفرغنها في المزمّلات يتقدمن نحو موقد النار وسط الغرفة ليدفأن قليلاً ثم يستأنفن عملهن، كما كنت أشاهدهن على المورد يملأن القرب ويغنون، وقد كان لسوق التجار الممتد أمام السرايا “ملاية” خاصة ترش السوق وتملأ الأباريق للتجار للوضوء والشرب ولها أجرة معينة من كل واحد منهم، كما كان الماء الذي تنقله “الملايات” من الفرات مباشرة إلى البيوت عكراً بسبب الطين، وهذا الطين يسد مسام المزمّلة فلا ترشح ولا تبرد الماء ولذا تتولى النساء تنظيف الماء قبل وضعه في المزمّلة بتصفيته من الشوائب والطين عن طريق قطعة من القماش المصنوعة من القطن، وبعد التنقية يصبح الماء جاهزاً للشرب، أما ماء الاستحمام فلا يحتاج إلى كل تلك العمليات، كما يتم تنظيف المزمّلة من داخلها وخارجها بليف النخل أو ببيش أو بالرمل».


“كحيط الفياض” قال: «كان أصحاب البيوت من الميسورين يتعاقدون مع ملايتين أو ثلاث بأجرة شهرية هي مجيدي لكل ملاية ويعطونها طعاماً من وقت لآخر وسحوراً واحداً في رمضان وعيدية في العيد، وأكثر ما يأتين بالماء إلى البيوت بين الصباح والظهيرة، وتستقي “الملايات” من مكان خاص على النهر يسمى “المارد” ينزلن إليه بدرج وتخوض الملاية قليلاً في النهر و”تطب” قربتها أي تملؤها بيدها مباشرة حتى إذا امتلأت أحكمت شد فوهتها بخيط واحتضنتها ورفعتها بيدها ووضعتها على إحدى الدرجات، وتكون قد وضعت على الدرجة مرستها وتولي القربة ظهرها وقد شدت القربة بالمرس وعلقته بجبهتها ورفعتها وصعدت درج “المارد”، وقصدت أحد بيوت عملائها حتى إذا أفرغت قربتها عادت إلى المارد لتملأ القربة من جديد، وهي في أثناء “طب” القربة تغني منفردة أو مع زميلاتها مختلف أنواع الغناء الغزلي الفراتي، ولما اتسعت البلد وزاد استهلاك السكان للماء ولم تعد “الملايات” يكفين احترف الرجال السقاية واستعملوا أكتافهم وصار الرجل “السقا” يحمل تنكتي ماء بواسطة عصا معلقة بحبل يضعه على كتفيه يعلق بكل طرف من العصا تنكة ماء واسم هذه العصا “مساقة”، ومع استمرار زيادة عدد السكان استعان “السقا” بحمار ووضع على كل جنب من جنبه صندوق خشب مكشوف فيه تنكتين أي صار الحمار يحمل أربع تنكات ماء».

 


كما ذكر الباحث “عبد القادر عياش” في كتابه “من التراث الشعبي الفراتي” “الملايات والسقا” بالقول: «حتى أربعينيات القرن العشرين كانت بيوت مدينة “دير الزور” حاضرة وادي الفرات تحصل على ماء شربها من الفرات بواسطة السقائين من نساء ورجال وقد قدمت لفظة النساء لأنهن كن وحدهن يتولين تزويد البيوت بماء الشرب منهن التي تزود بيتها ليلاً غالباً بقدر أو “سطل” أو صفيحة تغرف بها الماء من الفرات وتحملها على رأسها إلى بيتها لتفرغها في المزمّلة، وتكرر الذهاب إلى النهر بقدر حاجة بيتها إلى الماء، ومنهن المحترفات ويسمون “الملايات” واحدتها “الملاية”، وهي التي تملأ وعاءها بالماء من المنهل المورد. وهن اللواتي يزودن البيوت التي تعاقدن معهم بالماء يحملنه بالقربة الجلدية على ظهورهن مشدودة بالمرس ومعلقة بجباههن يمشين في كل الفصول على أرجلهن حافيات لاضطرارهن إلى الخوض في النهر لملء قربهن. وتتسع القربة الواحدة إلى نحو أربعين لتراً من الماء، وتفرغ “الملاية” الماء في بيوت زبائنها في المزملة وهي خابية من الفخار بلون الفخار الطبيعي تتسع إلى نحو ستين لتراً، ومنها الصغيرة ومنها الكبيرة تركز على كرسي خشبي بارتفاع نحو ستين سنتمتراً، ويتخذ البيت مزمّلة أو مزمّلتين بحسب عدد أفراد الأسرة».


بقلم رامي خطاط

شاهد أيضاً

صناعة البسط بدير الزور

تدر صناعة البسط والمفارش أرباحاً كبيرة على من يعملون بها، وقد تحولت من مفروشات إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *