“المعذرة .. يا دير الزور”.. بقلم نزار العاني

المعذرة .. يا دير الزور

بقلم نزار العاني .. كتبت بتاريخ 13 آب 1985

“دير الزور”،أعودُ إليها للمرة الثالثة أو الرابعة، منذ عشرين عاماً.تستلقي بلا حراك،كجمرةٍ متقدةٍ مطمورةٍ بأطنانِ الرماد، أهي القطيعة؟؟

لا ..وأعاتبُ نفسي وأعاتبُها.
آه يا بيتنا،بحنانِ الشرفةِ الحجرية المطلّة على الحارة الضيقة.

وآه يا سطحَ البيت،حيث ترْقُبُنا النجوم،ومنه نطلُّ على الفراشات النائمات على الأسطح المجاورة،نتبادل النظرات الصامتة بشوقٍ أبدي،لتطيرَ أحلامُنا الراكدة، في فراغ المدينة،مع حمامها الأبيض،وعبر نحاس سمائها الأزرق.

“الدير”…بسحنتها السمراء القاسية،بهوائها المتثاقل،بشمسها الحمراء الملتهبة،بصحرائها المفتوحة على المدى،بأشجارها المتنازلة طوعاً عن اللون والهيئة،بنهرها العميق الساهم،بذباب شوارعها،بأفقها المغلّف بالأتربة،بمقاهيها المسترخية في أحضان الكسَل،برائحة زيزفونها،يفوح بعد المغيب،كآهةِ أرضٍ مجروحة.

كلّ بضع سنوات،وربما كلّ عقد من السنين،يحمِلُنا الموتُ إليكِ،تحْمِلُنا الفواجع، لنودّعَ أخاً “بديعاً”،أو أمّاً رائعة،وفيما نلوّح بالقلب لعزيز قد رحَل،تهجمُ الذكرياتُ على حدقاتنا المفتوحة على دروبك التي لا تعرف الضجيج…ونتذكر،يوم كنا بطفولتنا الصاخبة،صوت الضجيج الوحيد في تلافيف صمتك الوقور.

كيفَ باعَدَتنا الأيام؟؟ولا يزال الهوى،وتلك الصيغة المُبْهمة للعشق،والنداء الخفي،الطافح بالحب، مُتصلاً مستمراً متدفقاً، كأننا لم نفترق لحظة واحدة!!

بساتينك المشرعة أمام عبثنا الصبياني،سرقاتنا البريئة للثمار، والحناطير المزدانة بالأشرطة الزرقاء والصفراء،طرابيش الرجال الحكماء،عباءات الصبايا الهفهافة،حيث تختبىء الفتنة التي يتشهّاها الحسّ المراهق،أسواقك القديمة العامرة برائحة الصوف،وغزل الماعز،والأقمشة المزركشة بالورود الكبيرة الفاقعة،والحبال الطويلة المشكوكة بقشور الرمّان اليابسة،والمواعين الخشبية المليئة “بالخاثر”،وعيون البدويات السوداء الصريحة،ومسابح الكهرمان،ورائحة الجلود المدبوغة،والمصاطب المهترئة،حيث تجلس النسوة القرفصاء،يبحثن عن ثوب عرس،”طابة” من قماش البوبلين المخطط.. وأحياناً عن كفن.

أبداً أنت في الذاكرة يا مدينة “الْغَرَبْ”..نهجرك صوب المدن الكبيرة،تطحننا أنيابها،نعيش في ظلّ أنوارها الخاطفة،يصمّ آذاننا زعيق سياراتها،وصافرات الشرطة،ونتكدس في بيوتها الإسمنتية الضيقة.وكلما داهمنا الحنين،هربنا إليك،إلى الآبار المحفورة في كل “حُوشْ”،إلى الأرض الرملية الموسمية التي ينحسر عنها الفرات،لتصبح ملعباً ومرتعاً نفرغ فوق مساحاته هموم الصيف،ونَحِّنُّ حتى إلى قبورك الواطئة التي تحتضن هياكل من أحببنا.

…عذراً يا مدينتي،يا أمسيات الصيف الحارّة،يا مواسم الحصاد،أعود إليك فوق أجنحة التّوْق،وأرجع منكِ بجعبةٍ مليئةٍ بالأسئلة الجارحة!!

كيف أفسّر غيابك الطارىء؟؟

كيف أقيس مساحة أحزانك؟؟

ولماذا غادرك إيقاع الفرح؟؟

تعالى كما كنتِ ..مهرة أصيلة بين المدن الخيول .

شاهد أيضاً

(ألوان بلا عنوان).. حمام السوق بقلم سمير الحاج

قبل العيد بيوم أو يومين في فترة ما قبل السبعينات من القرن الماضي يتجهز الناس …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *