مصطفى غدير.. ثورة شعر ديرية

الشاعر مصطفى غدير

بقلم: عمر العبسو

 

هو الشاعر الداعية الذي ينتمي إلى عائلة عربية عريقة من دير الزور كريمة الأصل طيبة الأرومة، وكعادتها مدينة دير الزور لم تحتفل بشاعرها وابنها البار فهو لم يلق العناية التي يستحقها ، وتعرض للإهمال والنسيان ، وغيبه الموت عنا مع كثير من العلماء والأدباء والشعراء والباحثين في مجالات الفنون والعلوم المختلفة، وكاد كثير منهم أن تمحى آثاره ومآثره من ذاكرتنا الاجتماعية، وكم كنت أتمنى ان يؤلف معجم يضم التعريف بهؤلاء المبدعين على منهج كتاب الأعلام لخير الدين الزركلي .

 

فالشاعر مصطفى عبد الكريم غدير واحد من آلاف العلماء والشعراء والأدباء والفنانين الأفذاذ الذين رحلوا عن هذه الدنيا الفانية ولم ينصفهم الكتاب والبشر ويكفيهم أنهم إلى رحاب محكمة العدل الإلهية ، فمن يذكر الشاعر محمد الفرات وعبد الجبار الرحبي ، والمعلم عبد المنعم الرحبي ، ومن يقرأ ما كتب عن الشيخ حسين رمضان الخالدي ، وولده الداعية عبد الرزاق رمضان الخالدي ، وأين الندوات التي تقام لتذكر بنائب المرشد العام للإخوان فضيلة الدكتور حسن هويدي ، ومن عاد يذكر الشيخ محمود مشوح ، وأولاده وأحفاده وما قدموه للفكر والدعوة الإسلامية ، لقد طوى النسيان ذكر محمد صالح يساوي ، ومحمد صالح زرقان ، ومصطفى غدير واحد من هؤلاء الذين عدتْ عليهم عوادي النسيان ، وطواهم التراب تحت الثرى ، فاندرس رسمهم ، وزال اسمهم من العقول ، وقد أكرمني الله ببعض المعلومات عن سيرته وحياته ونتفاً من شعره فأحببت أن يشاركني فيها القراء

 

فحديثي في هذه العجالة عن أديب لامع، وشاعر مبدع، وناقد فذٍّ هو الأستاذ:

 

( مصطفى عبد الكريم غدير ) رحمه الله، وأحسن مثواه.

 

المولد والنشأة :

 

ولد أديبنا الأستاذ الداعية مصطفى عبد الكريم غدير في دير الزور عام 1945م .ونشأ في أسرة مسلمة ملتزمة ، فشقيقه الأكبر هو الدكتور الشاعر حيدر عبد الكريم غدير الذي ما زال يكتب الشعر، وينشره، ويقيم في السعودية .

 

دراسته :

 

تلقى تعليمه، ودرس في مدارس دير الزور في المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية، ثم التحق بجامعة دمشق، فحصل على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية من جامعة دمشق عام 1970م

 

ثم حصل على شهادة دبلوم تأهيل تربوي من كلية التربية في دمشق عام 1969م .

 

عمله في التدريس :

 

وعمل أستاذاً في مدارس دير الزور، ثم فصل من وظيفته بسبب انتمائه الحزبي، فكان أستاذاً ناجحاً مبدعاً شهد له بذلك تلاميذه وذلك لما يتمتع به من شخصية قوية واثقة ومن حضور مؤثر في نفوس طلابه زاد على ذلك علمه الجم واطلاعه الواسع على فنون الأدب المتنوعة مع ملكة نقدية ولغة فصيحة بليغة .

 

نشط مشاركاً في الصالونات والندوات الأدبية والسياسية .

 

كانت له لقاءات وجلسات علمية مع بعض العلماء والأدباء والشعراء من أمثال أستاذي العالم الأديب الباحث ( عبد الجبار الرحبي ) -رحمه الله – والشاعر المبدع حفظه الله الأستاذ ( شريف القاسم ) ، وأستاذي العالم الأديب اللغوي الناقد ( محسن حمد الخرابة )، والشاعر قاسم ميثاق ، الذي يرى فيه أديباً بارعاً وشاعراً مبدعاً وناقداً لامعاً رحمه الله ، وجعله في عليين.

 

وله قصيدة يطالعها كثير من أهل دير الزور ، ولكن لا أظن أنهم يعرفونها كاملاً ، أو يعرفون قائلها .

 

هذه القصيدة قالها منذ سنوات الأستاذ المربي الراحل مصطفى غدير والتي من خلالها عبر بكل صدق عن عشق الديرين لمدينتهم رغم كل ما يعانونه فيها.

 

وهي منشورة في ديوان له بعنوان ( غضب الفرات العطشان )، وفيه هذه القصيدة « بطاقة حب إلى دير)) التي سنقف عندها بعد قليل .

 

وهو من الشعراء الذين قالوا أبياتاً من الشعر في عجاج بلده لذا أحبه حباً شديداً على الرغم من أن ذلك العجاج ربما سبب للناس بعض الأمراض والأضرار وذلك الشاعر هو الشاعر السوري مصطفى غدير – رحمه الله – ..

 

“مصطفى غدير”.. الشعر وتأجيج المشاعر :

 

والأستاذ “مصطفى غدير” من الشعراء الذين تغنوا بمدينة “دير الزور” في شعره، اتصفت كلماته بالوضوح والعمق والإحساس المرهف في نظم القصائد العمودية بطريقة بعيدة عن التعقيد.

 

ومدونة ((وطن))  التقت الشاعر “محمد المضحي” في 15 كانون الثاني 2014؛ الذي تحدث عن الشاعر مصطفى غدير بالقول: «تغنى الشاعر “مصطفى غدير” بجمال “دير الزور” وروعتها وعطائها، وقدم معزوفات مازالت خالدة على صفحات الشعر لما فيها من صور ولوحات جميلة ترددها الألسن وتحفظها عن ظهر قلب،

 

تميز شعره بعمق المعاني وقوة الألفاظ ووضوحها وبعدها عن التعقيد، وهو بارع في جميع بحور الشعر وفي مختلف أغراضه، إضافة إلى حفظه للمعلقات والشعر الجاهلي بكل أنواعه، كما أن شعره يتصف بخلوه من الهفوات الفكرية والأخلاقية. قال شعراً راقياً يتماشى مع روح عصره صور فيه بعض ملامح حياته وبعض معاناته في مختلف مراحلها وخاصة أثناء مرضه».

 

ويتابع الأستاذ محمد “المضحي”: «برزت شاعريته في وقت مبكر وكان حضوره الأدبي متميزاً في المشاركات والأمسيات الشعرية، فهو شاعر مجدد نظم القصيدة العمودية، وتدور معظم قصائده حول واقع الأمة العربية وتحريضها على النهوض الحضاري والديني، فشعره ذو نزعة إصلاحية، غير أنه يعكس ذاتاً مؤججة المشاعر ونفساً جياشة العواطف، تحتفى بالمعاني الوطنية مثل الاستشهاد والبطولة والحرية وغيرها.

 

له مطولة بعنوان “يا أخي” قسمها إلى دفقات شعورية، وجعل كل دفقة في خمسة أبيات على قافية واحدة، وله قصيدة من وحي نهر “الفرات”، تعكس حساً يقظاً لمعاناة الإنسان على ضفتيه، لغته جزلة، تحتفي بالرمز، وبمستويات من التعبير المكثف حيث يمتزج الذاتي والموضوعي في تراكيب متينة ومعانٍ تتسم بالعمق والتدفق».

 

وعن مسيرة الشاعر “مصطفى غدير” في مجال التدريس يتحدث المدرس “إسماعيل العثمان” من ناحية “البصيرة” بالقول: «عرفته مدرساً لمادة اللغة العربية في مدارس محافظة “دير الزور”، ويعتبر من المدرسين القديرين بمادة اللغة العربية؛ فقد تميز بثقافة موسوعية وخاصة في مجال علوم اللغة العربية والتراث الأدبي، وكان محبوباً لدى الطلاب من خلال طريقته المميزة التي كان يتبعها في التدريس والتي تبتعد كل البعد عن التعقيد، وكثيراً ما كان يجلس وحده أوقات الفراغ ممسكاً كتاباً بين يديه يتصفحه فلا يضيع وقته. ومن الأمور التي مازالت تعلق في ذاكرتي ولا أنساها عنه عندما مررت به وهو يقرأ كتاباً في الشعر الجاهلي وكان الجو بارداً وقتها، وقلت له: كيف تجلس وتقرأ في هذا البرد؟ فأجابني: “الكتاب يدفئني يا صديقي”؛ وهذه من المواقف التي لا أنساها له».

 

مؤلفاته :

 

من مؤلفات الشاعر المطبوعة:

 

1- “مرافعة في الوطن المحتل” 1985، مطبعة الفيصل “دير الزور” في سورية عام 1985م .

 

2- “غضب الفرات العطشان” – مخطوط .

 

3- “عن الشهادة والغربة”: قصيدة رثى فيها الدكتور تيسير رمضان الحصاد أحد أبناء الحركة الإسلامية النجباء والذي توفي في بلاد الغربة ، وهي من عيون الشعر وقد نشرتها مجلة حضارة الإسلام الغراء الصادرة في دمشق .

 

وله قصيدة وردت ضمن دراسة عنه في مجلة ( منارة الفرات ) .

 

وله مطولات بعنوان :

 

 يا أخي – قسمها إلى دفقات شعورية، وجعل كل دفقة في خمسة أبيات على قافية واحدة .

 

وله قصيدة :

 

من وحي نهر الفرات – تعكس حساً يقظاً لمعاناة الإنسان على ضفتيه لغته جزلة تحتفي بالرمز وبمستويات من التعبير المكثف حيث يمتزج الذاتي والموضوعي في تراكيب متينة ومعان تتسم بالعمق والتدفق .

 

وفاته :

 

توفي الأستاذ الشاعر الإسلامي مصطفى عبد الكريم غدير عام 2001م عن عمر ناهز السادسة والخمسين ، ولو طال به العمر لجدّد في أساليب ومعاني الشعر ، ورحل شاعر الفرات بعد مسيرة حافلة بالتضحية والصبر والبذل والعطاء .

 

شعر مصطفى غدير : دراسة موضوعية وفنية :

 

يقول في قصيدته من وحي نهر الفرات ، تحت عنوان ( غضب الفرات العطشان )، وهي من البحر البسيط ، وهو بحر كثير الاستعمال كالطويل وهو يقرب منه في استيعاب الأغراض والمعاني المختلفة ولكنه لا يلين لينه في التراكيب والألفاظ مع أن كلا البحرين متساوي الأجزاء ، وهو من ناحية أخرى يفوق الطويل رقة وجزالة ، ولهذا قلّ في شعر الجاهليين ، وكثر في أشعار المولدين ومن بعدهم .

 

وقد أكثر أصحاب المديح والبديعيات النظم عليه ، ورائدهم كعب بن زهير في (بانت سعاد )، وقصيدة مصطفى غدير مطلعها يبدأ بالتصريع الذي يكسب النص موسيقا حلوة محببة :

 

فراتُ يا شاعراً غنى فأغنانا               و يا محبـــــاً على الآماد روّانا

وردتُ نبعكَ إن صفواً وإن كدراً        سرٌّ من الله ، طاب الوِردُ وازدانا

 

وهذا سرٌّ عجيب أن يعشق الشاعر الإسلامي مصطفى غدير نهر الفرات في جميع حالاته في ثورته وسكونه ، وفي صفوه وكدره ، وهو حين تجور عليه الليالي يأتي إلى ذلك النهر العظيم يشكو له جراحه وأحزانه ، فلنستمع إليه، وهو يقول :

 

وجئتك اليومَ مجروحاً يسيلُ دمي   هلاّ سمعتَ – قبيل الموت – شكوانا

لا شاكياً من عدوٍّ جرح أغنيتي            جرح العدا هينٌ يلتام عجلانا

ولا جحوداً طوى في هول غربته               كنوزَ رفدكَ نسياناً ونكرانا

لكنْ جفاء حبيب ٍ بعته عمري                  فراح يشتمني زوراً وبهتانا

يا بؤس قلبٍ جفاه الحبّ من ضجرٍ         لا يرحم الله قلباً للهوى خانا

 

فهو لا يشكو للفرات الجراح والنكبات التي أنزلها الأعداء به وبأمته ولكنه يشكو إليه خيانة الصديق وغدره ، ويناجي الشاعر نهر الفرات، ويعتمد على أسلوب التشخيص حيث يغدو الجماد شخصاً يعقل وإنساناً يتمتع بالشعور والإحساس ، ويندمج الشاعر بالطبيعة على عادة الشعراء الرومانسيين، فيقول :

فراتُ عزمي انثنى من حُرقةٍ حرقتْ   قلبي وخلّت إبايَ البكر خذلانا

فراتُ يأسرني شوقي ويقتلني             صبري وتعدو بي الأيام ألوانا

فراتُ قلبي جنونُ العاشقين به            كمثل فيضك مجنوناً بنيسانا

على دروب الهوى قسّمته فغدا          قيسٌ وليلى عذولي حبيَ الآنا

 

وتفضح الشاعر العاشق دموعه، فيصور حبه، ويبوح به، فيقول :

 

حبي أعوذُ برب الحب من حسد ٍ          سماحة الطيب أفياءً وأفنانا

حبي أعوذ برب الحب من عتبٍ       ذخري رضيتُ بزاد الحب إيمانا

حبي وجلّت عطايا الله باركني                  فغسّلَ أرجاساً وأدرانا

 

وإذا كان أبو فراس عاشقاً للخمرة ومغرماً بها ، وإذا كان عمر بن الفارض شاعر الخمرة الإلهية فإن شاعرنا المسلم مصطفى غدير شاعر خمرة الفرات :

رشفتُ عمري رحيقاً من سلافته      خمراً مصفّى فراحي نال كيوانا

فراتُ ذابتْ على أشلاء قافيتي          آماليَ البيضُ سُلواناً وهجرانا

ويشكو إليه قسوة قلوب أبناء قومه ، فصيحته ضاعت سدى، وذهبت مع أدراج الرياح :

 

فراتُ ضاع حُدائي في الشعاب سدىً   فالركبُ في صمم قلباً وآذانا

تاهت على الدرب أحلامي مشرّدةً     بين المنى والمنايا عشتُ حيرانا

 

وانظر كيف يصبح الفرات خفقة فؤاد العشاق، ومهوى القلب، ومجلى النفس، فهو متعة الأرواح :

فراتُ يا خفقة العشاق ما رحمت      أمواجك الحرَّ في الإعصار سفّانا

أغالب الشوق – لا أقوى – وأكتمه     حتى رآني خليّ البال سكرانا

شربت من دنك الصافي معتقة            سرتْ بروحي فنور الله مرقانا

وما سكرت مع الندمان في سفهٍ          خمري عطاياك إيثاراً وإحسانا

فالخمر خمرك ما كرمُ وما عنبٌ         والصحبُ صحبكَ سمّاراً وندمانا

آثام شعري – ورفقاً – لست أنكرها    من شهد مائك أنغاماً وألحانا

فماء الفرات أشهى من الخمر وأعذب من الشهد وأصحابه وسماره على شواطئ الفرات أفضل من ألف نديم ٍ يعاقر المنكر ويستلذ بالخمرة، ويصور الشاعر آثام شعره تصويراً ساحراً، فيقول :

غابت فما خفيت ، بانت فما استترتْ   ضاقت فما رحبت، دانت لمن دانا

وشّيتها من جلابيب الهوى عبقاً             فاهتزّ حقد الورى، وازور غيرانا

وزعت قلبي وداداً خالصاً وندى            على العفاة – ولا منٌّ – وتحنانا

باقٍ من الشعر ما روّيته بدم ٍ                 حرٍّ تعرّى فما داجى ولا مانا

وفي غدٍ سوف تعيا كل ناعقة ٍ            تبرّحت ومشت في الغيد بطرانا

تبخترت في الحسان الحور واتخذت        لتخفي الصبح أصباغاً وأدهانا

وسوف تُظهر الأيام محاسنَ الفرات، وسوف يخرس كل ناعق لا يرى من الكأس إلا النصف الفارغ .

 

بطاقة حب إلى دير الزور :

 

ومن القصائد المميزة والمشهورة للشاعر قصيدة “بطاقة حب إلى الدير”؛ يحن فيها إلى مدينته ومسقط رأسه وأهله وخلانه ، ومن العجائب أن يشتاق إلى عجاج دير الزور ، فكل ما له علاقة بالمدينة حبيب إلى قلب شاعرنا ، ولو بدا فيه الضرر ، فالعذاب عذب إذا جاء من الأحبة ، ويقول الشاعر في مستهلها :

أُحِــبُّ عَجَـــاجَ الدّيرِ ، خَضَّــبَ مَفرَقِـي وَكَحَّــلَ أَجفَـانِـي ، وَنَــدَّى فُؤَادِيَــــا

وأُنشُـــــقُ حَـــــرَّ الدّيرِ ، بَردَ لَهِيبَـــــهُ أَلُــوذُ بِــهِ مِــــن وَقـدَةِ الجَمــرِ هَانِيَــا

وأَهوَى سَمَــاءَ الدّيرِ ، إِن هِيَ أَمطَــرَت سَمَـائِي ، وإِن وَلَّـى الغَمَـامُ سَمَائِيَــا

وأَعشَــــــقُ لَيـــلَ الدّيرِ ، إِنَّ نُجـُومَـهـــا لَتَخفِـقُ فِي قَلبِـي ، فَيَرتَــاحُ مَـا بِيَــا

وأَشــرَبُ مَــاءَ الدّيرِ ، كَـدِرَاً وَصَــافِيَــاً وَيَا طِيــبَ مَا أَلقَــاهُ كَدِرَاً وَصَافِيَـــا

وأَستَفّ تُربَ الدّيرِ، إن عضّنِي الطُّوى فأَشبـعُ منـهُ بَعدَ أن كُنــتُ طَاوِيَـــــا

وأشتــاقُ أهــــــــــلَ الدّيرِ، أَلقَـــى أَحِبّتـــــي فأَرضَى، كأَن ماجرّعُونِي التّجُافِيَـا

وأَشتَمُّ رِيــحَ الدّيرِ ، سِـــرّاً عَرَفتُــــــهُ فَتَخضَلُّ أَشوَاقِي ، وَتَشفَى جِرَاحِيَــا

و أَلثـُـــمُ حبــــاتَ الرِّمـالِ كَـعَاشـــِــقٍ يَطـوفُ في رَبع  الحَبيبـَـةِ حَانِيَـــا

وَأَرشُـــفُ مِـــن خَمـــرِ الفُــرَاتِ فَــلَا ظَمَـــأٌ لِوَارِدِهِ , فَلتُبلِغُـــوهُ سَـلَامِيَــا

فهو يشتاق ويحن إلى سماء الدير وعجاجها وحرها وليلها وتربها وأهلها وريحها ورمالها أما فراتها فقطرة منه أشهى من العسل وأشدّ سكراً من الخمرة، ومن يشرب قطرة من كوثره لا يظمأ أبداً .

 

يا أخي :

 

ويخاطب الشاعر الإسلامي مصطفى غدير أخاه الإنسان، ويطلب منه أن يحدق في الأفق البعيد، وأن يستعيد ذكريات الأحبة الأموات، فالموت هو البقاء، والشهيد حي عند ربه ؛لأنه باع دمه لله، فربح البيع، واحتل مكاناً في دار الخلود :

 

صعّدِ الطرف ، وحلّق للسماء     يا نجيَّ الروح يا بن الكبرياء

وابعث الأموات أحياءً ففي         قتــــــــــــــلك اليوم حياة وبقاء

لم يمت من باع لله الدما          ربحَ البيعُ عــــــــــــــــــــطاءً ونماء

لم يعش من رضي الهون ولم      يدرِ ما العيش فدنياه شقاء

وحياة الحرِّ بذلٌ وفداً             فاز من أدرك ركب الشعراء

 

وقد اختار الشاعر مصطفى غدير بحر الرمل وهو من البحور التي تتسع لموضوعات شتى ، وهو بحر الرقة ، يجود نظمه في الأحزان والأفراح والزهريات خاصة ، والشعر الوجداني عند مصطفى غدير يذكرنا بموشحات الأندلس ورقتها وعذوبتها وسلاسة الألفاظ فيها ، ولنستمع إلى خماسية الشاعر، وهو يقول :

 

هذه القُبلةُ يا صاحبُ لك        مـن محبٍّ زانه أن قبّلكْ

ذوّبتْ شوق أبيٍّ هـزةٌ          نورك الوضّاء في الليل الحلك

منّةُ الله عطاياك وقد            عزَّ من يعطي لربٍّ ما ملك

أنت روحٌ رفرفت من ظمأٍ       للسموات فنالتْ أملك

بوركَ الموتُ حياة للورى       أنت قد علّمتنا وطءَ الفلك

 

فهو ينوع في القوافي، ويهدي أخاه قبلة من أخ محبٍّ يفتخر بأنه يجلّ الأصدقاء، ويثني على جمال وحسن ذلك الصديق ونوره الوضاء البهيّ، ويمدحه على حسن البذل والعطاء الذي أصبح نادراً وعزيزاً، وصور روح ذلك الشهيد الذي رفرفت عشقاً وشوقاً للسماء ، ويمجد الألم والموت على عادة الرومانسيين (( بورك الموت حياة للورى )) ، فالشهيد الحبيب قد علمنا كيف نطأ على الأفلاك ، ولا نخش جباراً لا طاغوتاً .

 

ويكثر الشاعر من الاستعارات فهو يشخص الجرح ، ويجعله يكتحل ، فرحاً بالثأر والنصر، ويستخدم بعض الأساليب الرمزية مثل (تراسل الحواس) في قوله :

 

( واغتسل بالدم عطراً طيباً      فدما الأحرار عطرُ العاشقين )

 

فها هو يخاطب سليل الفاتحين، ويقول له :

 

كحّلِ الجرح حفيدَ الفاتحين     جرحك الثأر على مرّ السنين

واغتسلْ بالدم عطراً طيباً         فدما الأحرار عطرُ العاشقين

وارفع الرايةَ أنت المجتبى          لاتهب من كان من ماء وطين

وأمُم ِ الأهوالَ يا صاح ولا          تخشَ جباراً وذا ركنٍ ركين

واحفظ الله إذن نلتَ المنى          جنة الرحمن أو نصرٌ مبين

 

وقد أعلنها الشهيد عمر المختار صريحة يوم قال : نحن لا نستسلم : ننتصر أو نموت، وتلته قوافل الشهداء، فها هو شهيد الإسلام سيد قطب يعلنها مدوية :

 

فإما إلى النصر فوق الأنام     وإما إلى الله في الخالدين

 

ولنتابع شاعرنا، وهو يناجي الثوار والمجاهدين، فيقول :

 

أيها الثائرُ قد آن الأوان            زُلزلَ الميدانُ واحمرّ الطعان

سُلَّ سيفَ الثأر من محبسه               وتصدَّ لجبانٍ أفعوان

وانجلى الخطبُ عن النصر فوا     فرحة الأحرار في كلّ مكان

 

ويوم يأتي نصر الله والفتح يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .

 

وأخيراً :

 

والحق يقال إن مصطفى غدير شاعر مجيد نظم القصيدة العمودية، فأبدع فيها ، وذكرنا شعره بفحول الشعراء ، وتدور معظم قصائده حول واقع الأمة العربية والإسلامية وتحريضها على النهوض الحضاري والديني ، فشعره ذو نزعة إصلاحية غير أنه يعكس ذاتاً مؤججة المشاعر ونفساً جياشة العواطف تحتفي بالمعاني الوطنية مثل الاستشهاد والبطولة والحرية …وغيرها .

 

مصادر الدراسة :

 

1-            الدوريات – خالد محمد مسطو – ملحمة غنائية للشاعر مصطفى غدير – مجلة منارة الفرات – العدد السابع – مدينة دير الزور – حزيران 2006م .

 

2-            لقاء أجراه الباحث يوسف ذيب الحمود مع نجل المترجم له – دير الزور 2006م .

 

3-            مقالة الأستاذ قاسم أحمد ميثاق حسين – منشورة على صفحته وفي رابطة أدباء الشام .

 

شاهد أيضاً

الشاعر والأديب أحمد عبد الغفور الراوي.. لؤلؤة مكنونة

كثيرة هي الدرر المكنونة التي لم يتح لها أو لم تشأ أن تظهر على الساحة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *