حي الحويقة .. صور أغلى من الذهب

 

تغنّى في وصفه كثير من شعراء الدير وتحدّث عنه الكثير من المؤرخين لما له من أهمية في مدينة دير الزور

ويقع الحي في الجهة الشمالية لمدينة “دير الزور”، وينقسم لقسمين شرقي وغربي، ويتميز الحي بإحاطة نهر “الفرات” له من كل الجهات، إضافة لبساتينه وجسوره ومناظره وبيوته المميزة.

 

وقال عن هذا الحي وجماله الأستاذ  قاسم ميثاق الحسين 

 

يقع حي “الحويقة” أو كما تطلق عليه الجهات الرسمية محلة “العثمانية” في الجهة الشمالية، وهو عبارة عن جزيرة محاطة بمياه النهر على شكل قارب، حدوده الغربية “رأس الكسر”، ويمتد شرقا وصولا إلى التصاق فرعي النهر الصغير والكبير في منطقة يطلق عليها “رأس العصعوص”، ويتميز هذا الحي عن باقي أحياء “دير الزور” بمناخه الرطب وذلك بحكم الموقع (جزيرة)، حيث تنخفض الحرارة فيه صيفا بحوالي ثلاثة درجات عن باقي المدينة، وتنتشر فيه المسطحات الخضراء في كافة أجزائه.

«تعود تسميته “بالحويقة” نسبة إلى موقعه في النهر، وإحاقة المياه به (أي إحاطته من جميع الأطراف)، أما تسمية محلة “العثمانية”، فتعود إلى زمن الدولة “العثمانية”، عندما قامت الحكومة “التركية” بتعيين أول متصرف لسنجق “دير الزور”، وهو “أرسلان باشا” الذي أقام في أجمل منطقة بـ”دير الزور” وهي “الحويقة”، ويعتبر حي “الحويقة” من أجمل أحياء “دير الزور”، وهو ينقسم إلى قسمين (الحويقة الشرقية والغربية)، حيث يفصل بينها شارع “النافعة” الممتد من الجسر “المعلق” شمالا وصولا إلى الجنوب حيث جسر “الأعيور” وقد كان سابقا عبارة عن منطقة بساتين وخضرة دائمة، يحيط به نهر “الفرات” من كل جانب، كان سكانه في السابق يقسمون إلى قسمين (سكان الحي وسكان البساتين أو أهل البساتين)، لكنهم كانوا أسرة واحدة في أفراحهم وأتراحهم» قضيت بها شطر الشباب في بيت جدي لأمي عبد الحميد العكلة الضامن رحمه الله وأقربائه الأخوال الكرام بيت(  مضحي )

 وهذه ابيات من قصيدة لي في وصف الحويقة الفاتنة الجميلة.

ولاتنس َروضاً في الحويقةِ ناضراً.

          به قد تجلّى الحسن ُفي كل زهرة ِ

خميلة ُسحرٍ قد تجلّت كأنها 

           عروسٌ بأثواب ِالجمالِ تَجلَّت ِ

فكم ْخلبت ْلبي برونقِ حُسنها 

            وكم أجَّجتْ في الصدرِ نارَ صبابةِ

أياليتني فيها على ظهرِ نخلة ٍ

            وياليتني أغفو بظلِ عريشة ِ

وياليت عندي قطفةً من كُرومها 

             وحباتِ تمر ٍبلْ رضيتُ بتمرة ِ

بها دار ُجدي جدّد الله ُعهدَها 

              وجللها بالغيث ِمن كلِ مزنة ِ

قضيت ُبها شطر َالشبابِ وليتني 

               أُقضي بها قبل َالمنية ِشيبتي 

اياليتَ شعري هل تراني نزيلَها 

                وهل تسمحُ الأيّام ُمنها بنظرة ِ

وقال ايضاً 

من سراديب الذاكرة

 

الحويقة روضة من رياض الجمال في دير الزور يحضنها نهر الفرات الثر بفرعيه حانيا عليها حنو الأم الرؤوم  الشفوق على بكرها الصغير تأخذه بحضنها الدافئ الرحيم المفعم بالحب والحنان هذه هي الحويقة الجميلة الأنيقة ، ضرب عليها الحسن قبابه وخيامه ، واختارها الجمال لتكون متبوأه ومقامه، واصطفاها البهاء ليتخذ منها مستقره ومنزله.  يكاد الحسن أن يغار من رونق حسنها ، وتحمر البهجة خجلا من بهجة حدائقها ونضارة بساتينها . عبق العطور الناعشة من أريج ورودها وأزهارها ، والنشر الفواح في الآفاق من عبق فلها وياسمينها . هذه هي الحويقة الجميلة الأنيقة ، عروس رفلت بأثواب الربيع المونق ، فتجلت فأبهرت  بجلوتها نواظر المجتلين وأسرتهم بباهر زينتها وبهاء طلعتها . علقتها طفلا صغيرا يدرج في ملاعبها ويرتاض في حدائقها وبساتينها فيأكل من طيب جناها وناضج ثمارها . ويتمرغ على شطآن نهرها مرحا وجذلا، ويغمس في حمارة القيظ اللاهب جسمه الغض في رقراق سلسبيله ، ويمتع ناظريه برؤية السابحين العابرين الى الحويجة النهرية بالقرب من الجسر المعلق كان بعضهم يعبر النهر وهو يدفع أمامه بطيخة تطفو على السطح حينا وتغطس حينا آخر  فمنهم من تصل معه الى الحويجة بسلام فتند من فمه صرخات الفرح والسرور ، لأنه سيتمتع وأصحابه بروعة حلاوتها ولذة ( جمارتها ) ومنهم يجرفها النهر الدافق فلا يقدر على اللحاق بها فيتركها وهو في غاية اللهفة والحسرة وآخرون يعبرون وقد حملوا ثيابهم بيد ويصارعون الماء باليد الأخرى ، كانت الحويجة البديعة ملاذ الناس في الصيف اللاهب يتمرغون برمالها ويتفيؤون ظلالها كما كان الجسر المعلق موئل المغامرين يقفزون من اعلاه بكل جرأة غير هيابين ولا خائفين هذه هي الحويقة وهذا نهرها الفياض الثر المعطاء

 

لي في مغانيها الف ذكرى وذكرى لكل ذكرى نكهة خاصة ومذاق فريد . ذكريات محفورة في جدران ذاكرتي متجذرة في أعماق وجداني وجدتني وأنا أستدعي هذه الذكريات أدلف الى دار جدي لأمي – رحمه الله – في الحويقة وكانت دارا واسعة كبيرة لها بابان يطلان على شارعين ينتهي أحدهماإلى أرض فسيحة نصبت فيها  ( تنانير )يخبز فيها نساء الحي القريبات اللواتي كن يتخذن من دار جدي معبرا للوصول إلى تلك التنانير وكأني بهن أمام ناظري الآن يتهادين بمشيتهن وهن يحملن على رؤوسهن (مخامر الخبز ) المقمر كهيئة البدر التمام ، وتتمثل أمامي وأنا أخط هذه السطور صورة جدتي – رحمها الله -وقد تحلق أحفادها حولها تدغدغ قلوبهم فرحة غامرة يراقبونها وهي تخبز ( السيالي ) الذي كانت تتحفنا به بين الحين والآخر والذي كنا ننتظره بلهفة وشوق بالغ ثم تعرض لي صورة جدي – رحمه الله – واقفا على السلم الخشبي وهو يحمل مقصا كبيرا يهذب به ويقلم عريشة العنب المتدلية على فناء الدار كأن عناقيدها مصابيح فضية صغيرة نضد بعضها فوق بعض أو تراه يحملق في شجرات النخيل الباسقة يتفحص رطبها الجني الطيب الحلو كل يوم مخافة أن يكون أحد من الاهل والجيران قد سطا على بعضه كان لايحب لاحد ان ياخذ منها رطبة واحدة دون علمه وإرادته ولم يكن احد من اهله يجرؤ على تسلقها أو هزها لتسقط ثمرها غير طفل مشاغب مشاكس ، العبث و( الشقاوة ) ملء إهابه ، كان يتحين فرصة غياب جده عن البيت فيأتي من حي الحميدية ليتسلق تلك النخلات فيهزها هزا تتساقط له كل مانضج من رطبها فيتداعى الاهل والجيران لالتقاط مايقدرون على التقاطه والهرب من مسرح الجريمة قبل ان يأتي الجد فيحدث لهم ما لاتحمد عقباه كان هذا الطفل اول الهاربين واول المتهمين كان الجد يبرق ويرعد ويتهدد ويتوعدفيتغيب اياما حتى تنحسر موجة غضب جده اتعرفون من هذا الطفل 

 

( العابث المشاغب ) ؟ اظنكم ستعرفونه ، إنه كاتب هذه السطور وسارد هذه الوقائع التي طواها الزمان فأصبحت فعلا ماضيا ولكنها لم تزل في ذاكرتي على طول العهد بها حاضرا شاخصا استدعيه دون مشقة أو عناء كنت استرضي جدي الغاضب  

 

-رحمه الله – واستل من قلبه غيظه وحنقه بحيلة ماكرة كنت أجمع – من بيتنا – قشور البطيخ وكسر الخبز اليابس في كيس ثم انطلق إلى دار جدي فأدلف على عجل دون استئذان أو سلام متوجها الى مربض الخاروف القابع في زاوية الدار فانثر أمامه القشور وكسر الخبز على مرأى من جدي وجدتي  اللذين تملأ ضحكتهما الدار من هذه الحيلة المكشوفة المعروفة 

 

فاضحك لضحكهما وأسر لسرورهما وتنجلي عني غمامة الخوف من تقريع جدي وتأنيبه ومايمضي غير قليل حتى يدب الخلاف بيننا فيعلو صراخه – رحمه الله – فيزجرني وينهرني فيأخذني من ذلك غضب شديد فأركض دون وعي مني إلى مربض الخروف المسكين الذي لاحول له ولا قوة فاجمع من أمامه بقايا القشور وكسر الخبز التي لم يهنأ بها وانطلق وسط حشد من الاهل والجيران الذين هيجهم من بيوتهم صراخ جدي المرتفع إلى الفسحة الكبيرة القريبة وانثر مامعي وامرغه بالتراب حتى  لا يستفيدوا منه بعد هربي .كنت

 

اسمع من ورائي قهقهات الجيران والأهل من هذا المشهد ( الكوميدي ) الساخر رحم الله جدي وجدتي فقد تحملا عبثي كثيرا   ويكبر هذا الطفل الصغير ويصبح شابا هادئا عاقلا وتصبح تلك الذكريات قصصا يتندر بها في مجالس الاهل والاحباب

 

 

وأخذنا من صفحة حي الحويقة مجموعة صور تسحر القلوب وتأسر عيون الناظرين لهذا الحي 

 

شاهد أيضاً

“قهاوي” الدير.. لكل قهوة روّادها واختصاصها

تنتشر في “دير الزور” عدد من المقاهي الشعبية أخذت أسماء كثيرة مثل “الجرداق” و”غبيني” و”الحمام” …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *