الجَزِيرَةُ السُّورِيَّهُ فِي بِدَايَة الفُتُوحَاتِ الإِسْلَامِيَّة

 

الجَزِيرَةُ السُّورِيَّهُ فِي بِدَايَةالفُتُوحَاتِ الإِسْلَامِيَّة

تَمْهِيدٌ :

عندما قام المقدسيُّ المتوفي عام 990م بتصنيفهٍ للمناطق في كتابه “أحسن التَّقاسيم في معرفة الأقاليم ” صنف مناطق الجزيرة السُّوريَّة ضمن إقليم آقور وهو من الأقاليم العربيَّة فقال (وقد قسَّمنا هذا الإقليم على بطون العرب لتعرف ديارهم وتميُّزها، وجعلناه ثلاث كور على عدَّة بطونهم أولها من قبل العراق ديار ربيعة ثمَّ ديار مُضر ثمَّ ديار بكر وبه أربع نواح، وأمَّا ديار ربيعة فقصبتها الموصل ومن مدنها : الحديثة معلثاي  الحسنية تلعفر سنجار الجبال  بلد أذرمه برقعيد نصيبين دارا كفرتوثا  رأس العين  ثمانين، وأمَّا ناحيتها فجزيرة ابن عمر، ومدنها  فيشابور  باعيناثا  المغيثة الزُّوزان. وأمَّا ديار مضر فقصبتها الرَّقَّة ومن مدنها المحترقة، الرَّافقة، خانوقه، الحريش، تلِّ محرى، باجروان حصن مسلمة، ترعوز، حرَّان، الرَّها، والنَّاحية سروج، كفر زاب، كفرسيرين، وأمَّا ديار بكر فقصبتها، آمد، ومن مدنها، ميافارين، تلِّ فـافـان، حصن كيفا الفار، حاذيه. وغيرهم. والمدن الفراتيَّة أكبرهن، رحبة ابن طوق، قرقيسيا عانة، الدَّالية، الحديثة. ومدن الخابور قصبتها، عرايان ومن مدنها “الحصين الشَّمسينيَّة، ميكسين، سكير، العباس، لخيشة السِّكينيَّة، التَّنانير).

في القرن الثَّاني عشر الميلادي، زار الشَّريف الإدريسي خلال رحلته إلى هذه المناطق، وكتب في كتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق “في افتتاح الجزء الخامس من الإقليم الرَّابع في وصف هذا الإقليم ما يلي:

(… وعليه من البلاد الشَّاميَّة أنطرسوس واللَّاذقيَّة وأنطاكيَّة والمصيصة وأذنة وعين زربة وطرسوس وقرقوس وحمرتاش وأنطاليَّة المحرقة وأنطاليَّة المحدثة والباطرة والميرة وجون المقري وحصن استروبلي وفيه من البلاد الشَّاميَّة البرية فامية وحصن سلمية وقنسرين والقسطل وحلب والرَّصافة والرَّقَّة والرَّافقة وباجروان والجسر ومنبج ومرعش وسروج وحرَّان والرَّها والحدث وسميساط وملطية وحصن منصور وزبطرة وجرسون واللَّين والبذنذور وقوة وطولب…).

وقال ياقوت الحمويُّ في معجمه ( الجزيرة هي الَّتي بين دجلة والفرات مجاورة الشَّام تشتمل على ديار مضر وديار بكر، سمِّيت الجزيرة لأنَّها بين دجلة والفرات …. بها مدن جليلة وحصون وقلاع كثيرة ومن أمَّهات مدنها حرَّان والرَّها والرَّقَّة ورأس العين ونصيبين وسنجار والخابور وماردين وآمد وميا فارقين والموصل وغير ذلك …).

وقال أحمد وصفي زكريا (…القسم الغربي من الجزيرة الواقع ما بين الخابور والفرات وفيه في يومنا قضاءا الرَّقَّة وعين العرب كان من ديار مضر وحاضرتها الرَّقَّة، والقسم الأوسط الواقع ما بين الدِّجلة والخابور وفيه قضاء القامشليَّة والحسكة وجبل سنجار كان من ديار ربيعة وحاضرتها الموصل، والقسم الشِّماليُّ الَّذي فيه جزيرة ابن عمر وميا فارقين، ممَّا ظلَّ داخل حدود التُّرك كان من ديار بكــر وحاضرتها آمد، وفي هذه الجزيرة حدثت الوقائع بين قبائل ربيعة وأهمها بين بكر وتغلب، وهي حرب البسوس بين كليب وجساس …)[1] .

أمَّا الواقديُّ المتوفي عام 207 للهجرة فقد قسم تلك المناطق إلى مناطق الخابور وديار ربيعة وديار بكر، أمَّا المناطق المجاورة للجزيرة الفراتيَّة من جميع الجهات فيذكرها بشيء من الدِّقَّة أبو الفداء الَّذي يقول ( فعلى هذا تكون بعض أرمينيَّة وبعض الرُّوم غربي الجزيرة وبعض الشَّام وبعض البادية جنوبيها والعراق شرقيها وبعض أرمينيَّة شماليها)، ويمكن إيجاز حدود الجزيرة بأنَّه يحدُّها من الشِّمال بلاد أرمينية وبلاد بيزنطية ومن جهة الغرب بيزنطية وإقليم الشَّام ومن الجنوب البادية وبلاد الشَّام، ومن الشَّرق العراق.

كما قال المستشرق الإيطالي “كي لسترنج “بعام 1905 (وكانت الجزيرة تنقسم إلى ثلاثة أقسام نسب كلَّ قسم منها إلى القبيلة العربيَّة الَّتي نزلته أيَّام الأكاسرة وأشهر مدنها  الموصل وهي على مقربة من أطلال نينوى، وآمد في أعالي دجلة، والرَّقَّة على عدوة الفرات الكبرى بالقرب من طف البادية، وفي أقصى الطَّرف الأخر من هذه البادية مدينة دمشق ) ثمَّ يتابع ويقول في ص 34، (فمعظم أسماء الأمكنة في إقليمي العراق والجزيرة إمَّا أنْ يكون عربي النَّجار أو آراميّاً  إذ كانت الثَّانية هي لغة القوم الشَّائعة قبل الفتح الإسلاميِّ، ولأسماء المدن بالعربية معنى ومن الأمثلة على ذلك الكوفة والبصرة وواسط  …)[2].

ونحن في دراستنا هذه سنتبع تقسيماً يختلف عن بقية المؤرِّخين فقد بدأنا بالمناطق من الجزيرة السُّوريَّة الواقعة على ضفاف نهر الفرات، ثمَّ المناطق على ضفاف نهر الخابور، ثمَّ المناطق في الدَّاخل من أراضي ربيعة وبكر واعتمدنا في شرحنا على ما جاء بالمصادر ولا سيَّما ما ألفه الواقديُّ والبلاذريُّ وابن الأثير وسنبيَّن غالبية المناطق ومن كان يحكمها ومن قام بفتحها.

 

_                     _                            _

 

  

الَبابُ الأَوَّلُ

الَمَناطِقُ الَّتِي فُتِحَتْ وَالوَاقِعَةُ عَلَى ضِفَافِ الفُرَاتِ وَالَخابُورِ

لقد كان لموقع الجزيرة الفراتيَّة، أثر كبير على استقرار السُّكَّان بها. فقد كانت منطقة فاصلة بين الامبراطوريتين الفارسيَّة والبيزنطيَّة وتنازعا عليها وقـــد أدَّى هذا إلى وجود عناصر عديدة فيها مثل الأرمن والأكراد.

واستقرَّت القبائل العربيَّة القادمة من الجزيرة العربيَّة في الجزيرة الفراتيَّة، منذ ما قبل الإسلام سواء عن طريق الغزوات أو كمهاجرين، وعرفت بعض المناطق بأسماء قبائلهم.

وكانت قبائل بكر وربيعة ومضر أولى القبائل المهاجرة إلى الجزيرة الفراتيَّة ثمَّ تلتها قبائل تغلب ونمر وقضاعة وهذه القبائل العربيَّة وغيرها من القبائل الأخرى الَّتي سكنت المنطقة منذ العصر الجاهليِّ، لم تقف هجراتها عند هذا الحد، بل واكبتها قبائل عربيَّة جديدة إلى المنطقة في صدر الإسلام كما هاجرت بطون وأفخاذ جديدة من القبائل الأمِّ المستقرَّة في الجزيرة الفراتيَّة، وهذا التَّواجد العربيُّ كان عاملاً مساعداً في نجاح الفتوحات الإسلاميَّة لمناطق الجزيرة السُّوريَّة بقيادة عياض بن غنم.

ويقول الباحث الرَّقيُّ محمَّد العزو: “عندما هاجرت القبائل العربيَّة (ربيعة، بكر، مضر) إلى الجزيرة الفراتيَّة سكنت ربيعة بشكل رئيسيٍّ في منطقة الموصل الحالية، وبكر في آمد (ديار بكر، حالياً في الأراضي التُّركيَّة)، واتَّخذت قبيلة مضر من الرَّقَّة عاصمة لها”.

وجاء في  اطروحة الأميركيِّ “ولتر كيفي” ( إنَّ طيء بقيادة الصَّحابيِّ عياض بن غنم الفهري تمكنت في عام 17 للهجرة من فتح الجزيرة ومدنها (ماردين وديار بكر) وتمكنت من طرد هرقل إلى شمال أنقرة )[3].

أولاً – فتحُ الرَّقَّة :

تقع الرَّقَّة على ضفاف نهر الفرات وسط المنطقة الواقعة ما بين مدينة دير الزور ومنطقة جرابلس وأنشئت هذه المدينة عام 242 ق م وكان اسمها كالينيكوس نسبة إلى مؤسِّسها الملك سلوقس الأوَّل، كما قال البعض إنَّ هذه التَّسمية نسبة إلى كالينيكوس الفيلسوف اليوناني الَّذي توفي فيها.  وقال عنها الحلبي الغزي ” قديمة العهد جداً، بناها إسكندر المقدونيُّ تذكاراً لانتصاره، وسمِّيت أولاً نيقوفوريوم، ثمَّ كاليكيوم، ثمَّ قسطنطينوبوليس نسبة إلى قياصرة من الرُّومان “[4]

ويعدِّد الغزي بعضاً من الحوادث الَّتي جرت في الرَّقَّة عبر التَّاريخ منها ” وقعة بين أهلها وعساكر الضَّحاك الخارجي سنة 128 هـ فأرسل مروان عسكراً أرحل عنها الخوارج “[5]

وكان فيها ببداية الفتوحات الإسلاميَّة بطريق يُسمَّى “يوحنا”، وعندما سمع بالفتوحات الإسلاميَّة لتلك المناطق استعدَّ للقتال، إلَّا أنَّ أهل الرَّقَّة وبعد اجتماعهم ودراستهم لواقعهم وشأنهم وواقعهم في الصِّراع بين أهل الشَّام والعراق وأن لاحول لهم ولاقوه بذلك، فبعثوا إلى القائد العربيِّ عياض بن غنم والَّذي كان يتقدم بقواته في تلك المناطق، وطلبوا منه الصُّلح وصالحهم.

وقال ياقوت الحمويُّ “إنَّ الفتح الإسلاميِّ للرَّقة تمَّ صلحاً في سنة (17هـ/ 638م)، بقيادة عياض بن غنم وسهيل بن عدي وهما من قادة جيش أبي عبيدة بن عامر الجراح، واتَّخذ عياض من الرَّقَّة قاعدة لفتوحاته في الجزيرة الفراتيَّة، حيث فتح سنة (19هـ) اديسا (الرها) وحرَّان وسميساط ومن الرَّها إلى منبج ورأس العين، وبعد أن سيطر على ذلك الجزء من المنطقة أخذ قرقيسيا الواقعة على الضِّفَّة اليسرى لنهر الفرات، وبذلك أمن الضِّفتين، ورجع إلى الرَّقَّة ومنها سار إلى حمص، والياً عليها وعلى الجزيرة “الرَّقَّة” ( الَّتي غالباً ما كانت العرب في قرون الإسلام الأولى تعبر عن الرَّقَّة بهذا الاسم لأنَّها أقرب المواقع الهامَّة بالقياس إلى من يعبر الفرات) وذلك بأمر من الخليفة عمر بن الخطَّاب، والَّذي مات فيها عام (20هـ).”[6]

يؤكِّد الباحث محمَّد العزو « إنَّ أهل الرَّقَّة استطاعوا خلال فترة الخلافة الرَّاشديَّة المحافظة على معتقداتهم وكنائسهم القائمة. وبقيت الرَّقَّة تمارس حياتها الاعتياديَّة مستفيدة من خصوبة أرضها ووفرة مياهها وموقعها الجغرافي المميز بين الجزيرة والشَّام ممَّا أعطاها أهميتها التَّجاريَّة والعسكريَّة»[7].

ثانياً ـــــ فتح القلعتين زباء وزلابيا:

وتقع القلعتين على بعد 45 كم عن مدينة دير الزور على الضِّفتين من نهر الفرات ومقابلتين لبعض يربط بينهما طريق تحت الأرض (سرداب) وفتحت عام 17 للهجرة على يد عبد الله بن عتبان وسهيل بن عدي بالاتفاق مع عبد الله يوقنا وابنته والَّتي كانت ملكة على القسم الشَّرقي من القلعتين ومن خلال المكيدة الَّتي أعداها للملك اكشفاط والَّذي كان ملكاً على مناطق الجزيرة، ووليَ الأخوص بن عامر على القلعة الغربية وزياد بن الأسود البربوعي على القلعة الشَّرقيَّة.

ثالثاً– فتحُ قرقيسيا:

تقع قرقيسياء عند ملتقى نهر الفرات بالخابور في منطقة البصيرة، وكان شهر باض ملكاً عليها، وقدم إليها على رأس جيش المسلمين عبد الله بن عتبان بعد الانتهاء من فتح القلعتين الزَّبَّاء وزلابية عام 17 للهجرة، وفتحت بعد مقتل ملكها شهرياض على يد النُّعمان بن المنذر، وقتل ورنيك الأرمني على يد عبد الرحمن بن مالك الأشتر، وبعد مقتله خافت زوجته أرما نوسة بنت الملك قريشيون واستعانت بالقائد عبد الله يوقنا والَّذي استطاع الإلتفاف على الملك شهرياض برجوعه إلى دينه المسيحية، وقلدته أمر بلدها والَّذي أعد العدة لتحصين المدينة، وكان أحد المدافعين عنها “المنذر ابن عاصم” المعروف عنه بقوة ساعده بالرَّمي للحجارة من القلاع، وسمِّي برج القلعة الَّذي كان يرمي منه “ببرج المنذر”  ونتيجة لخدعة قام بها عبد الله يوقنا على أرما نوسة أستطاع المسلمون الدُّخول إلى المدينة وطلبت أرما نوسة الأمان بعدما اكتشفت الخديعة وأعطاها عبد الله بن عتبان وسهيل بن عدي الأمان، وعرض على أهل قرقيسيا الإسلام وأسلمت أرما نوسة ومن كان معها وأقرهم عبد الله في مواضعهم وأحسن اليهم، وأخذ كنيستهم وهي بيعة مار جرجس فأتَّخذها جامعاً وعيَّن والياً عليها شرحبيل بن كعب، وطلب عبد الله بن عتبان من عبد الله يوقنا أنْ يأمر ابنته أن ترجع إلى قلعتها نتيجة التَّوصية الَّتي جاءته من الأمير عياض بن غنم وعادت إلى قلعتها واتَّجه بالمسير إلى ماكسين وعرايان[8]، أمَّا ابن الأثير بيَّن إنَّ فتحها تمَّ على يد عمر بن مالك [9].

رابعاً– فتح ماكسين (مركدة): وصور والمجدل وماسكن والسَّمَّانيَّة (الشَّمسانيَّة) وعرابان والسَّكورة: وتقع هذه المناطق على الخابور وفتحت جميعها صلحاً على يد عبد الله بن عتبان بعام 17 للهجرة.

[1]- “عشائر الشَّام” جزء أول ص77.

[2]- “بلدان الخلافة الإسلاميَّة” ص17.

[3]- “بيزنطة والفتوحات الإسلامية المبكرة”.

[4]- كامل البابي الحلبي الشهير بالغزي ،نهر الذهب في تاريخ حلب ص371.

[5]- نهر الذهب ص 371 .

[6]- في كتابه معجم البلدان.

[7]- حضارة الفرات الأوسط والبليخ.

[8]- (تاريخ فتوح الجزيرة للواقدي ).

[9]- الكامل المجلد الثاني “في ذكر فتح قرقيسيا “.

شاهد أيضاً

دير الزور.. لمعة في تاريخها ((مقال عن مدينة دير الزور قبل نحو 114 سنة ))

بقلم الأديب عبد الكريم نوري أستاذ اللغة الفرنسية سابقاً بلواء دير الزور.. تحرير و تدقيق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *