مملكتا إيبلا و ماري

أولاً – حَضَارَةُ إيبلا :

تلازمت هذه الحضارة مع حضارة السُّومريين، فالسُّومريُّون استقرُّوا في جنوب العراق مثلما بيَّننا سابقاً عند الحديث عن السُّومريُّون والإيبلاويُّون استقرُّوا في شماله وعندما نتحدَّث عن جنوب العراق وشماله فهذا يعني منطقة بلاد النَّهرين وامتداداتها عبر سوريَّة والعراق.

وقَسَّم الباحث الدُّكتور محمَّد بهجت القبيسي الحقبة التَّاريخيَّة لحضارة إيبلا إلى ثلاث حقب (حقبة الامبراطوريَّة من عام 2600إلى 2340 قبل الميلاد وكانت مؤلفة من مائة مدينة وأكثرـ الحقبة الوسطى من عام 2340 إلى 2250 قبل الميلاد وكانت مؤلفة من أربعون مدينة تقريباً ـ الحقبة الثَّالثة حقبة الدَّولة من عام 2250 إلى 1750 قبل الميلاد، وأشار إلى أنَّ الحضارة الايبلاوية كانت قبل الأكَّادية والدَّليل أنَّ أكَّاد الجديدة الَّتي بناها’’ شاروكين’’ بمشــاركة حفيده (نارام سين) الَّذي هدم ايبلا وبالتَّالي فإنَّ إيبلا موجودة قبل ذلك)[1].

أمَّا حدودها فقد قال عنها عالم الآثار “باولوماتييه” الَّذي كان يرأس البعثة الأثريَّة الإيطاليَّة من جامعة روما والَّتي كشفت عنها عندما‏‏ تولت التَّنقيب في موقع تل مرديخ قرب بلدة سراقب في محافظة إدلب السُّوريَّة على مسافة نحو 55 كم جنوب غرب مدينة حلب في سوريَّة. ‏‏ بسطت نفوذها على المناطق الواقعة بين هضبة الأناضول شمالاً وشبه جزيرة سيناء جنوباً، ووادي الفرات شرقاً وساحل المتوسط غرباً.

كما أوضح “ماتييه” أنَّ إيبلا مرَّت بثلاث حقب زمنية “الأولى بين2300-2400، والثَّانية 2000-2300، والثَّالثة 1600-2000 قبل الميلاد”، لافتاً إلى أنَّ إيبلا اسمٌ عربيٌّ يعني الحجر الكلسيَّ وسمِّيت بهذا الاسم نسبة لطبيعة الأحجار الكلسيَّة فيها مشيراً إلى أنَّ مملكة إيبلا شكَّلت أساساً لبناء الحضارة السُّوريَّة وكان لها ارتباط وثيق مع مراكز الحضارات وخاصَّة الحضارة الفرعونيَّة.‏‏ وأشاد ماتييه بالأهميَّة التَّاريخيَّة والحضاريَّة لمدينة ايبلا وقال: إنَّ اكتشاف إيبلا والأرشيف الملكي لهذه المدينة قدَّم للبشرية واحداً من أقدم المكتشفات والممالك الواقعة في الشَّرق الأدنى من عصر البرونز الأمر الَّذي يجسِّد أهميَّة البحث العلمي في الحوار بين الشُّعوب والثَّقافات. وكانت اللُّغة السَّاميَّة هي اللُّغة الرَّسميَّة لسكَّان مدينة إيبلا وكثيراً من المدن الَّتي عاصرتها وجاورتها في منطقة الشَّرق الأوسط.  يقول البروفسور “جيوفاني بتيناتو”من أعضاء البعثة وأستاذ اللُّغات القديمة، إنَّ اللُّغة الإيبلائية هي أقدم لغة مكتوبة،أي أنَّها اللُّغةُ الأمُّ للغات العربيَّة الَّتي ظهرت فيما بعد. ‏‏ وكانت الحضارة الايبلاويَّة والسُّومريَّة مرتبطتين في أشياء كثيرة ويقول بتي ناتو عند اكتشافه النُّصوص الأدبيَّة في إيبلا إنَّ النُّصوص الأدبيَّة في سجلَّات إيبلا نادرة ولكنْ وجد في لوحات إيبلا نقلاً من ملاحم أدبيَّة لعلَّها ترجمة للملاحم السُّومريَّة القديمة فأبطال ملاحم ايبلا هم أنفسهم أبطال ملاحم السُّومريِّين مثل ملحمة جلجامش هو نفسه له حيِّز واضح لدى الايبلويِّين وكافَّة قصص الخليقة والإنسان وقصَّة الطوفان كلِّها كانت متداولة لديِّهم ومسطَّرة في لوحاتهم. ‏‏

ويـشكل كنـز إيـبلا الكـبير المؤلـف مـن أكثـر مـن ١٦ألـف رقـيم مـسماري أقدم وأضخم مكتبة وثائقيَّة بتاريخ البشرية.

قصر ملكي في ايبــــــلا

ثانياً – حَضَارَةُ العَمُّوريِّين ( الأمـــــــــوريِّين )(( مملكة ماري )):

وهم من الأقوام الجزريَّة الغربيَّة والَّتي نزحت بأوَّل وأكبر الهجرات من شبه الجزيرة العربيَّة منتصف الألف الثَّالث قبل الميلاد نحو بلاد الشَّام، حيث تمَّركزوا في بداية الأمر في الأقسام الشِّماليَّة منها، ثمَّ أخذوا ينتشرون في أواسط سوريَّا وفي لبنان حتَّى امتدُّوا جنوباً إلى فلسطين.

مملكــــــه مـــــــــــاري

يقولُ بعض الباحثين إنَّ أحد أسباب سقوط السُّلالة السُّومريَّة هي الهجرات المتعاقبة من الأموريِّين وغيرهم ممَّا جعل وادي الرافدين تابعاً لحكم أقوام أجنبيَّة كالأخمينيِّين والسَّلوقيِّين والفرثيِّين والسَّاسانيِّين، وأدَّى بنفس الوقت أنْ يكون السُّومريِّين الأقلِّيَّة سرعان ما ذابت في المجتمع الجديد. وأقام “الأموريُّون” في بلاد الشَّام سلالات ملكيَّة عدَّة في مدن (حرَّان) و(حلب)  و(قطنا)، فيما تُعتبر دولة (أمورو) أكبر دولهم. ودولة (أمورو) باللُّغة الأكَّدية أو (مار – تو) باللُّغة السُّومريَّة، تمثِّل كمصطلح ذو مدلول جغرافيِّ عند السُّومريِّين والأكَّديِّين على حدٍّ سواء، ويقصدون به سوريّا كونها تقع إلى الغرب بالنِّسبة لبلاد ما بين النَّهرين، فيما استعمل البابليُّون هذا المصطلح على كلِّ بلاد الشَّام، حتَّى أنَّهم سمُّوا البحر المتوسط باسم (بحر أمورو العظيم) وذلك بعدما انتشر “الأموريُّون” في جميع المنطقة الممتدَّة من ساحل البحر المتوسط شرقاً إلى نهر الفرات غرباً، كما ويُطلق هذا الاسم (أمورو) على الإله القوميِّ للأموريِّين.

لقد أتَّخذ “الأموريُّون” من مدينة (ماري) عاصمة لهم، ومدينة (ماري) هي مدينة تقع أطلالها على الضِّفَّة الغربيَّة من نهر الفرات على مسافة حوالي (12كم) من شمال مدينة البوكمال الواقعة في (محافظة دير الزور) الواقعة حاليّاً شرق (الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة) وتُعرف خرائبها الآن باسم (تل الحريري).

ولعبت مدينة (ماري) دوراً مهمّاً في تاريخ الشَّرق القديم، لما تمتَّعت به من موقع ممتاز يتوسط طريق القوافل التِّجاريَّة والموصلات الرَّابط ما بين بلاد ما بين النَّهرين وبلاد الشَّام ومصر، ومدينة (ماري) هي المدينة الَّتي مرَّ بها النَّبيُّ (إبراهيم الخليل) في هجرته من مدينة (أور) جنوب بلاد ما بين النَّهرين إلى مدينة (حرَّان = حاران) شمال شرق بلاد الشَّام في القرن (19 / ق: م).

وحكمت في مدينة (ماري) سلالة سومريَّة بزعامة (ملك الوركاء : لوكال زاكيزي) وذلك قبيل احتلالها من قبل الملك (سرجون الأكَّدي) ولكن بعد سقوط (الامبراطوريَّة الأكَّديَّة) تمكنَّ “الأموريُّون” أنْ يتغلغلوا في سوريَّا الوسطى وفي لبنان، ثمَّ تدفَّقوا بهجرات ضخمة فانحدروا إلى بلاد ما بين النَّهرين إبَّان حكم الملك السُّومريِّ (آبي – سين) آخر ملوك (سلالة أور الثَّالثة)، فأدَّى ذلك إلى أن يقضوا على آخر سلالة سومريَّة في التَّاريخ على الإطلاق، ثمَّ أسَّسوا بعد ذلك ما بين أعوام (2100 – 1800 ق.م) عدَّة دويلات في بلاد ما بين النَّهرين ومنها (مملكة آشور) و (مملكة أشنونا) و (سلالة آيسن) و (سلالة لأرسا) و اللَّتان قامتا على انقاض السُّلالة السُّومريَّة (سلالة أور الثَّالثة).

وبقيت هذه الدُّويلات مزدهرة إلى أن قضت على استقلالها (سلالة بابل الاولى) الأموريَّة أيضاً، حيث أستطاع الملك البابلي السَّادس (حمورابي) والَّذي حكم لمدَّة (42) عاماً من ضمها لمملكته وذلك منذ العام الـ (30) من حكمه.

إنَّ لغة “الأموريِّين” هي من اللُّغات السَّاميَّة الغربيَّة وهي شبيه باللَّهجة الكنعانيَّة والفينيقيَّة الغربيَّة، ولكنَّ “الأموريُّون” أتَّخذوا اللُّغة البابليَّة كلغةٍ رسميَّة دونوا بها شؤون حياتهم المختلفة.

   

إنَّ أهمَّ ما خلَّده “الأموريُّون” في التَّاريخ وخاصَّة بعد استقرارهم في بلاد ما بين النَّهرين هو تأسيسهم (الدَّولة البابلية الأولى ” القديمة”) والَّتي حكمت خلالها (سلالة بابل الأولى) معظم أنحاء منطقة الهلال الخصيب، وقد بلغ عدد ملوكها (11) ملكاً حكموا جميعاً زهاء (3) قرون ما بين أعوام (1894 -1595 ق.م).

[1]-  النبي والأكراد.

 

لمحة عن الكاتب:

 

ياسر ياسين العمر

سورية – مدينة دير الزور – تولد عام 1960

حاصل على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق عام 1978

الانتساب الى نقابة المحامين فرع دير الزور عام 1989

شغل منصب امين سر نقابة المحامين بديرالزور وترك هذا المنصب 2012

اتبع دورات عديدة في التحكيم

وحصل على شهادات تثبت اتباعه لتلك الدورات من غرفة التحكيم العربية وغرفة باريس .

-محكم لدى المركز الدولي للتوفيق والتحكيم والخبرة بسورية

-محاضرا سابقا في برنامج الأمم المتحدة للمنح الصغيرة

-متبع دوره في إدارة المجتمعات الاهلية

– عضو في اتحاد المؤرخين العالمي

– عضو في هيئة القانونيين السوريين

شاهد أيضاً

دير الزور.. لمعة في تاريخها ((مقال عن مدينة دير الزور قبل نحو 114 سنة ))

بقلم الأديب عبد الكريم نوري أستاذ اللغة الفرنسية سابقاً بلواء دير الزور.. تحرير و تدقيق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *