الرحى .. (الرحيية)

 

غابت عن منازلنا كآلة مستخدمة.. لكنها حاضرة في بال كل من عاصرها ولم يعاصرها، إذا أن الأجداد أورثوها للأبناء والأحفاد ولاتزال في بيوت البعض كتحفة يعتز كثيرون باقتنائها.

وكتب عن ذلك الأستاذ يونس سند:

الرحيية او الرحى : من أدوات المنزل الديري القديم وهي قديمة من العصر الحجري وعبارة عن قطعتين مستديريتين من الحجر البركاتي ولها مقبض خشبي وفتحة في الوسط لصب المواد المراد طحنها ويوضع تحتها خرقة قماش تسمى تفال تصنع من بقابا الملابس وحهها من القماش الابيض وفاها من القماش الملون .
ويطحن ويجرش العدس والبرغل وطحن القمح والشعير والملح .والمرأة عندما تطحن وتضع لهوة بعد لهوة تقوم بالنعي وتذكر الغياب والاحباب ومن غادروا هذه الدنيا
ومن النعي :
ينار قلبي نار شيح وقادها مايستريح
ينار قلبي نار علقه شوح تعلق شوح تطفا
ينار قلبي نار طرفا نوب تشعل نوب تطفا

ومن الغناء الذي تذكر فيه الرحى
مـــــــــــاقلتج يايما               على الرحى عينيني

مدري الرحى ثقيلة              مدري العشق راميني

 

 

بينما كتب آخر ..

كانت الرحى إحدى أهم الأدوات المنزلية التي تستخدمها المرأة في المجتمعات التقليدية لطحن الحبوب وإطعام أهل بيتها، وهي في الآن ذاته رفيقتها التي تبوح لها بأسرارها وتشكو لها همومها وتعبر أمامها عن سعادتها.

 

وهذه العلاقة التي تجاوزت فيها الرحى مجرد الأداة المنزلية إلى صديقة للمرأة ومتنفس لها ممّا تلقاه من ضغوط في حياتها اليومية، ولكنها انسحبت من الحياة اليومية ومن عادات الطبخ في أغلب المدن العربية وأصبحت لا تحضر سوى في مناسبات إحياء التراث وفي المهرجانات التي تحيي العادات والتقاليد وتهتم بالأدوات المنزلية القديمة ليطلع جيل الصغار عمّا كانت تستعمله الجدات لرحي الحبوب. ولعل غالبية جيل الشباب والصغار تجهل صوت الرحي وطرق صنعها وكيفية استخدامها وطعم دقيقها الرطب والمرحي على مهل وبصبر، وبفعل الحداثة أصبحت الرحى اليدوية بأنواعها الأكثر قدما من بين مقتنيات المتاحف، ومن أدوات وتحف الديكور الذي يعتمد الطابع التقليدي بعد أن كانت أهم الأدوات لإعداد الطعام، حيث لا تغيب عن أغلب المنازل العربية في الأرياف والبوادي وفي بدايات تشكيل المدن. ولأن المرأة هي المكلف, بشؤون البيت ومنها الطبخ، فهي أكثر من يستعمل الرحى بشكل يومي، حيث تستبق نهوض بقية أفراد الأسرة من النوم لتعد رغيف الخبز من الدقيق الذي جهزته مرددة الأغاني والأشعار التي حفظتها ذاكرتها، مما كانت تردده أمها أو جدتها أو مما ألفته بنفسها.

 

العلاقة الوثيقة بين المرأة والرحى اكتسبت أبعادا نفسية واجتماعية ووجدانية مختلفة وتمخض عنها زخم غنائي وشعري مثّل أحد وجوه الإبداع في المجتمعات التقليدية. وبطرق وصف مختلفة تذكرها الأغاني الحديثة اليوم عندما تتحدث عن المجتمعات التقليدية وتسترجع صورا من الماضي والتراث.

 

العلاقة الوثيقة بين المرأة والرحى اكتسبت أبعادا نفسية واجتماعية

ويركّب الحجران أحدهما فوق الآخر، ويكون السفلي منهما ثابتا بينما يتحرك الحجر العلوي حول محورٍ خشبي أو معدني تكون قاعدته مثبتة في الحجر السفلي الذي يطلق عليه في سوريا مثلا اسم “السندة” ويسمّى “قطب الرحى” (الذي اكتسب حضورا لغويا كبيرا)، وعندما يدور الحجر العلوي من الرحى فإنه يمر فوق حبات القمح أو الشعير التي توضع من فتحة دائرية صغيرة في وسط الحجر العلوي أثناء عملية التدوير، فتتكسر تلك الحبات كلما دار عليها حجر الرحى وقتا أطول حتى تصبح دقيقا ناعما.

أما الفراشة فهي قطعة خشبية مستطيلة كفراشة المغزل بها ثقب في وسطها تستعمل لمسك المحور وتثيبته حتى لا يتزحزح، والهاوي أو الهادي هو خشبة على شكل عصا صغيرة تثبت في الثقب الجانبي لتكون المقبض الذي يدير حجر الرحى العلوي، وأحيانا تلف عليها قطعة من القماش حتى لا تؤذي اليد، لأن احتكاكها باليد يسبب الآلام. ويفرش تحت الرحى بساط يكون من جلد الحيوان أو قطعة من القماش تسمى “الرقعة” ليسقط فوقها الحب المجروش أو المرحي.

وللرحى أبعاد رمزية اجتماعية حيث لا تمتلك جميع العائلات آلتها الخاصة فتقوم النسوة إما باستعارتها من الجيران أو يجتمعن في منزل إحداهن للرحي مع بعضهن ويتيح لهن القيام بهذه المهمة تبادل أطراف الحديث والنقاش وترديد الأهازيج الشعبية لإضفاء جانب من الترفيه أثناء العمل الجماعي الذي يستغرق وقتا طويلا يمكن أن يكون مملاّ.

 

ومثلما انحصرت استعمالات الرحى نقصت أو انتهت صناعتها وتكاد حرفة ومهنة صانعي الرحي تصبح من الماضي رغم أن لها تقنياتها المميزة وطرقها ومراحلها التي تتطلب دراية كبيرة وخبرة خاصة في انتقاء المادة الأولية من أنواع الحجارة لتصميم جزأيها العلوي والسفلي أو فردتيها بمقاسات معيّنة وبسمك معين وبقطر يبلغ نحو 50 سنتمترا لكل منهما، بحيث يكون الجزء العلوي أقل سمكا ليكون خفيفا أثناء تدويره وكذلك تتطلب طرق صناعة بقية أجزاء الرحى نفس الدقة في اختيار المواد الأولية ونوعية الخشب ومقاساته وطرق تركيبه وتثبيته ليسهل استعمالها.

 

ورغم انتهاء حقبة استعمال الرحى إلا أن ارتباطها بالحياة التقليدية وعلاقة المرأة العربية بها وما خلفته هذه العلاقة من إبداعات فنية، شعرا وغناء، جعلها من الأدوات التراثية وثيقة الارتباط بالموروث الشعبي العربي ورمزا للأصالة ومصدرا لاستكشاف مراحل تطور ابتكارات الإنسان في صنع الأدوات التي تمكنه من تسهيل حياته وتوفير الغذاء بجهد أقل. وهي اليوم قطعة أثرية تتزيّن بها المتاحف العربية لتوثق من خلالها مراحل تاريخية بعينها لكنها ستظل حاضرة في المخيال الشعبي بصور متعددة وفي الأدبيات والفنون العربية المعاصرة.

شاهد أيضاً

أكلات ديرية انقرض بعضها.. الگرصة والعصيدة والسيالي

بعض الأكلات بحكم التطور الذي واكب محافظة دير الزور اندثر ولكن بعض نساء دير الزور …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *