جغرافية الجزيرة السورية في بلاد مابين النهرين

 

الفصْلُ الأَوَّلُ

الجَزِيرَةُ السُّوريَّه فِي بـلادِ مَا بَيْنَ النَّهْرَينِ

المَبْحَثُ الأَوَّلُ

–  الجُغْرافيَا –

أطلق الإغريق كلمة “ميزوبوتاميا” على بلاد الرَّافدين منذ القرن الرَّابع قبل الميلاد. ويراد بمصطلح ميزوبوتاميا هو السَّهل الواقع بين نهري دجلة والفرات. أمَّا بلاد الرَّافدين لدى ساكز وروبرت وبليني فهي “البقعة الممتدَّة ما بين منابع دجله والفرات إلى الخليج العربيِّ” أي تلك البلاد الَّتي عُرفت ببلاد بابل وآشور القديمة. أمَّا العالِم “فلنكشتاين” فذهب إلى خلاف ذلك وبيَّن إنَّ مصطلح (ميزوبوتاميا) قد يعود بأصوله إلى تسمياتٍ قديمةٍ وردت في بعض النُّصوص المسمارية الأكَّاديَّة على هيئة (بيريت نـارم) الَّتي تعني بلاد النَّهرين.    ويحدِّد الأصطخري وابن حوقل حدود الجزيرة بأنَّها “تمتد من الجنوب من خط يمر بالأنبار إلى تكريت، ثمَّ يصعدُ شمالاً إلى السِّنِّ والحديثة والموصل وجزيرة ابن عمر وآمد ثمَّ يتَّجه غرباً إلى سميساط ويستمرُّ حتَّى يصل الفرات الَّذي يكوِّنُ الحدَّ الغربي للجزيرة. كما بيَّن ذلك “[1].

أمَّا “ياقوت الحمويُّ” وفي وصفه الجغرافي لمنطقة الجزيرة: جزيرة “أقــــــور” بالقاف، وهي الَّــــتي ( بين دجلة والخابور، مجاورة للشام، تشتمل على ديار “مُضرَ” و”ديار بكر”، وسمِّيت بالجزيرة لأنَّها بين دجلة والفرات، وهما يُقبلان من بلاد الرُّوم وينحطان متساويتين، حتَّى يلتقيا قرب البصرة، ثمَّ ينْصبَّا في البحر، وهي صحيحة الهواء جيدة الرِّيح والنَّماء، واسعة الخير، بها مدن جليلة وحصون وقلاع كثيرة ، ومن أمَّهات مدنها: “حرَّان”، “الرَّها”، “الرَّقَّة”، “رأس العين”، “نصيبين “، “سنجار”، “الخابور”، “ماردين”، “ميا فارقين “،”الموصل”، “ماكسين”، “تل مجدل”، “عبربان”، و”طابان”).

وبيَّنا أراء بعضٍ من الباحثين إنَّ سفينة نوح عليه السَّلام رَسَتْ فيها وإنَّ انتشار البشر بعد الطَّوفان كان منها، وذُكِرَ ذلك في غالبية الكتب المقدَّسة، كما أنَّ البعض يؤكِّدُ أنَّ حضارات البشر الأولى كانت في بلاد الرَّافدين.

ويقول العالِم “كرامر” (وقد ألِفَ العالَمُ سماعَ أسماء مختلفة لحضارة بلاد الرَّافدين مثل “الحضارة البابليَّة والكلدانيَّة والسُّومريَّة والأكَّاديَّة والآشوريَّة والآراميَّة” وأصبحت هذه التَّسميات مألوفة لدى الباحثين وعلماء الآثار، ولا يمكنْ لأيِّ شخص يُطلَق عليه تسمية باحث أو عالم بالآثار إلَّا وتكون من أبجديات مفاهيمه معرفة تلك الأسماء)[2]

             موقع بلاد ما بين النَّهرين الجغرافي والجزيرة السُّورية من ضمنها

وإنَّنا في دراستنا هذه سنسلِّط الضَّوء على تلك الحضارات والممالك وفقاً للتَّسلسل الزَّمني وموقعها الجغرافي، مؤكِّدين مثلما بيَّننا سابقاً ” أنَّ تلك الحضارات والممالك  كانت متداخلةً مع بعضها، بحيث لا يمكن لأيِّ باحثٍ أنْ يقومَ بسرد تواجد الحضارات سرداً زمنيّاً وجغرافيّاً بشكلٍ دقيقٍ، لوجود التَّداخل في فترات حكم ملوك مناطق بلاد الرافدين، فمثلاً وخلال فترة الحكم السُّومري في تلك البلاد كان هناك ممالك بابليَّة وآشوريَّة وآكاديَّة وآراميَّة مستقلة ولها كيانها الخاص وكذلك الأمر في العهد الآشوري فقد كانت تقوم ممالك شبه مستقلة ضمن سيادة الدَّولة الآشوريَّة كمملكة بابل وما يتبعها من ممالك  (آور وتل حلف وغيرها ) إلَّا أنَّهم كانوا يعرفون خارج الدَّولة بالآشوريين نسبة للدَّولة الَّتي ينتمون إليها والَّتي كانت مسيطرةً “.

وعلى الرَّغم من أنَّ بعضَ المؤرِّخين ذهب إلى خلاف ذلك معتقدين أنَّ لا وجود للبابليين أو الآشوريين في عهد السُّومريين.

وفي هذا السِّياق لابدَّ لنا من ذكر ما قاله الدُّكتور”خلف الجراد” في مقدِّمة ترجمته لكتاب ” ثقافة السِّريان في العصور الوسطى: تأليف نينا بيغوليفسكايا ” ( إنَّ حضـارة منطقــــة ما بين النَّهرين – مثلاً- أغنى من أنْ تحدَّدَ بمرحلةٍ زمنيَّةٍ واحدةٍ أو بجماعةٍ أو بشعبٍ أو بجنسٍ “عرق” دون غيره، فهي حصيلة لما قام به السُّومريُّون والأكَّاديُّون والآشوريُّون والسِّريانيُّون والعرب المسلمون …إلخ … ومن تلك المراحل التَّاريخيَّة العظيمة لهذا الإقليم ينحدر إلينا تراثٌ ضخمٌ غنيٌّ متنوع ليس سومريّاً فقط أو بابليّاً أو أكاديّاً أو آشوريّاً….إلخ بل إنَّه مزيجٌ متفاعلٌ موحَّدٌ لتلك المراحل جميعاً، الَّتي تداخلت وانصهرت في بنيةٍ اجتماعيَّةٍ  ثقافيَّةٍ متكاملةٍ وإنْ ارتبطت مراحلها الزَّمنيَّة والسِّياسيَّة الايديولوجيَّة  باسم هذه السُّلالة الحاكمة أو تلك، أو بهيمنة فئةٍ معيَّنةٍ أو لهجةٍ ما أو انتشار نمط من الكتابة والاتصال اللُّغوي البارز في رقعةٍ جغرافيَّةٍ أو بشريَّةٍ أكبر أو أصغر…. إنَّ المهمَّة التَّاريخيَّة الكبرى تتمثَّل. قبل كلِّ شيءٍ. في استعادة ذاكرتنا الثَّقافية. بكلِّ عناصرها ومكوناتها. بكلِّ لحظاتها التَّاريخيَّة مهما تعارضت مع آرائنا وتوجهاتنا ومــواقفنا الأيديولـــوجيَّة والسِّــياسيَّة والحــــزبيَّة. فهي ذاكرتنا الجمعية المشتركة…والحقيقة أنَّ حضارتنا ممتدة تاريخيّاً وجغرافيّاً وبشريّاً امتداداً واسعاً. والامتناع عن دراسة أو نشر الإبداعات والعطاءات الَّتي قدَّمها سُكَّان المنطقة في أيَّة بقعةٍ أو في أيَّة مرحلة إنْ هو إلَّا تَنَكُّرٌ فجٌّ يُسيءُ لكامل تاريخنا الحضاريِّ…ومن المؤسف أنَّنا في ذروة صحوتنا الوطنيَّة ودعوتنا إلى التراث…لم ننتهج الأسلوب الأكثر علميَّة وموضوعيَّة القائم على الدِّراسة التَّاريخيَّة وفق المنهج الجدلي بحيث تُدرس العناصر المكونة لتلك الذُّرى الحضاريَّة في سياقها العام وهكذا لم نُحسن استغلال هذا التُّراث الهائل…إنَّنا بحاجةٍ شديدةٍ لبعث هذا الكم الكبير من تراث المنطقة ولكن ضمن سياقه التَّاريخيِّ، أي أنَّنا ندعو إلى وضع كلِّ لبنة فيه بمكانها الصَّحيح، إنَّ أوَّل الأسس الَّتي يجب الانطلاق منها في معالجة التُّراث الثَّقافي لمنطقتنا الحضارية. يتجلَّى في المنهج التَّاريخي الشُّمولي القائم على مبدأ الوحدة التَّاريخيَّة والجغرافيَّة والبشريَّة لشخصيتنا الحضاريَّة…لكن هذا الموقف الموضوعي والتَّفكير العلمانيِّ المنفتح على الجميع. لا يتكوَّن بالعواطف وحدها. ولا بالمفاخرة بالماضي التَّليد وحسب، بل لابدَّ أن يقومَ على أساس برنامج تثقيفيِّ استراتيجيِّ طويل المدى. تنفذهُ كلُّ القوى والفئات المخلصة لقضية الانبعاث الحضاريّ والتَّحرر التَّام من جميع أشكال التَّبعية والاستلاب وفقدان الهوية الثَّقافية الوطنيَّة الذَّاتيَّة.)[3].

                   

_           _           _

                         

 [1]- العراق وبلاد الرَّافدين والسُّكَّان الأوائل لعبَّاس فاضل السَّعدي.ص56

[2]- “الألواح السُّومريَّة ” (التَّاريخ يبدأ من سومر).

[3]“ثقافة السريان في العصور الوسطى” تأليف “نينا بيغوليفسكايا “ص9

 

 

لمحة عن الكاتب:

 

ياسر ياسين العمر

سورية – مدينة دير الزور – تولد عام 1960

حاصل على إجازة في الحقوق من جامعة دمشق عام 1978

الانتساب الى نقابة المحامين فرع دير الزور عام 1989

شغل منصب امين سر نقابة المحامين بديرالزور وترك هذا المنصب 2012

اتبع دورات عديدة في التحكيم

وحصل على شهادات تثبت اتباعه لتلك الدورات من غرفة التحكيم العربية وغرفة باريس .

-محكم لدى المركز الدولي للتوفيق والتحكيم والخبرة بسورية

-محاضرا سابقا في برنامج الأمم المتحدة للمنح الصغيرة

-متبع دوره في إدارة المجتمعات الاهلية

– عضو في اتحاد المؤرخين العالمي

– عضو في هيئة القانونيين السوريين

شاهد أيضاً

دير الزور.. لمعة في تاريخها ((مقال عن مدينة دير الزور قبل نحو 114 سنة ))

بقلم الأديب عبد الكريم نوري أستاذ اللغة الفرنسية سابقاً بلواء دير الزور.. تحرير و تدقيق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *